المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > الملتقيات العامة > الملتقى العام
 

الملتقى العام لكل القضايا المتفرقة وسائر الموضوعات التي لا تندرج تحت أي من التصنيفات الموجودة

جرة ذهب ، قافلة الموت

قصة اعجبتني . كنت على يقين بأنه سيتم قتلنا جميعا مع آخر جَرّة ذهب نقوم بدفنها، ولم أكن لأتوقع أن الشيخ سيملُّ ذبح الحمير ويبدأ ذبح البشر !!! في البداية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 10-02-2018, 05:31 PM   #1
الحوراني
الرئيس
الرئيس


الصورة الرمزية الحوراني
الحوراني متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  05 2001
 أخر زيارة : يوم أمس (11:07 PM)
 المشاركات : 25,709 [ + ]
 التقييم :  396
 الدولهـ
Jordan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Blue
جرة ذهب ، قافلة الموت




قصة اعجبتني .
كنت على يقين بأنه سيتم قتلنا جميعا مع آخر جَرّة ذهب نقوم بدفنها، ولم أكن لأتوقع أن الشيخ سيملُّ ذبح الحمير ويبدأ ذبح البشر !!!
في البداية اعتقدت أني الوحيد الذي يخطط لسرقة الذهب وذهلت حينما اكتشفت أن هدف الجميع سرقة الذهب ثم البحث عن طرق للنجاة...)))
بعد مئة عام تكشف حفيدة عزيز حقي عن أسرار قصة القافلة العثمانية، التي زرعت الموت والذهب في جبال فلسطين والأردن ووديانهما.
عشرات القوافل اجتمعت بمرج ابن عامر لتتحد في أكبر قافلة ذهبٍ عرفها التاريخ، انطلقت تحت حراسة مشددة وكانت وجهتها بيروت ومنها إلى حلب... وبعد غروب الشمس استولى على القافلة اليوزباشي يعقوب بدعم من أفراد التشكيلات الخاصة، وبدأت رحلة الهرب والاختباء بين الجبال... كانت أوامر الباشا ليعقوب أن يتخلص من الضباط الذين يشك في ولائهم، وأن يتم إخفاء القافلة مدة أسبوع بين الجبال وانتظار الأوامر قبل بدء تنفيذ خطة الطوارئ وعبور نهر الأردن، ومن بيروت انطلق جودت ليتولى قيادة القافلة يرافقه الشيخ طبرق.
(((كان لقاؤنا الأول بجودت وفرسه نجمة يوم ثلاثاء أسود، لم يتوقف فيه عن شتم أمهات رجاله وأخواتهم)))
كانت تقتضي خطة الطوارئ الاختباء نهارًا، والتحرك ليلاً بلا هدف أو اتجاه؛ غربًا، جنوبًا أو شمالاً حتى يستحيل على مَنْ يسعى لرصد القافلة أن يكتشف وجهتها النهائية إلى الشرق ونهر الأردن...لقد كان جودت يرغب في الإسراع بدفن الذهب، ويحرص على ألا تُدفن كمية كبيرة في مكان واحد؛ للتقليل من الخسارة في حال انكشاف أحد مواقع الدفن؛ وكانت مهمة الشيخ تحديدها.
(((الثلاثاء الأسود كان ذلك اليوم الذي رأيت فيه الشيخ القبيح للمرة الأولى...أمرنا بحفر حفرة كبيرة ودفن الجنود والعرب والخدم الذين لقوا مصرعهم، وأصرَّ على جرّ حمار ميت ليزين القبر الجماعي، حينها أيقنتُ أن قباحة نفسه تفوق قباحة شكله، وشغلني البحث أيامًا عن سر العلاقة التي تربطه بالفتاة الحسناء التي شاركته الخيمة)))
الضابط كاظم كان دليل القافلة، وكان بارعًا في تمويه إخفاء الأثر وإبقاء القافلة في تحرّك مستمر، ليصعب رصدها أو تتبعها، واليوزباشي شكيب الأزرق العينين، كانت مهمته مد القافلة بالإمدادات وإرسال قافلة وهمية باتجاه سوريا لتضليل فرق المطاردة.
(((بعد أسابيع وعلى مقربةٍ من القدس كانت المرة الأولى التي ألتقي فيها بأزرق العينين، وبالرغم من أنه لا يشبه جودت إلا أنى شككت في علاقة عائلية تجمعهما، وبعد أيام من هذا اللقاء قام بجمعنا وأعدم عربيًا أمام أعيننا)))
عزيز حقي كان في الثالثة والعشرين من عمره حينما رافق عالم الآثار روهان إلى فلسطين، واستقبلهم الملازم حيان وصحبهم إلى الكهف الذي تم اكتشافه بأطراف الناصرة، أذهلهم ما بداخل الكهف، وكاد عزيز أن يُجن لعدم تمكنه من معرفة ما حمله روهان وحيان داخل الصناديق.
كان الهدف حمل الصناديق إلى إسطنبول، ولكن القدر أعدَّ لهم خطة أخرى؛ فبعدما بلغت القافلة محطة القطارات بحيفا تبعتهم قافلةٌ مجهولةٌ إلى المكان نفسه، ثم لحق بها مَنْ يعيدها إلى مرج ابن عامر، ووقع الالتباس بين القافلتين، وتحت تهديد السلاح اضطر روهان وعزيز ومعهما حيان ورشيد لمرافقة الجميع للمرج، وهناك كانت البداية لرحلة الموت والذهب.
عدد القوافل التي توافدتْ إلى مكان واحد والحراسة المشددة أدخلت الخوف والشك على قلبي روهان وحيان، أمَّا عزيز الفضولي فكان سعيدًا لالتباس الفهم الذي ألحقهم جبرًا بالقافلة المجهولة، وشقت القافلة الضخمة طريقها وغرق عزيز في الذهب والدماء والأسرار، تعرَّف بمراد وحسن وحفر ودفنهما، صادَق مالت المخنث الثرثار، وابتعد عن طبيلة العملاق، أحبَّ عبد القادر وسالم، وكَرِه رشيد وسعدون وجمال الدين وخلدون، استغل أحمد شيخه وسلامة، وسخر منه نعمة وجوهر، استعبده الشيخ طبرق، وحرمه خادمه بيبرس من الطعام، أحب فتاة الشيخ نيروز وتقرب إليها، راود رباب المصرية عن نفسها واكتشف أنها لعنة ستطارده إلى الأبد، أحبه جودت وكرِهَه يعقوب، تقرَّب إلى إيليا الأبهق ناقِش الرموز والرسوم بالقرب من مواقع الدفن، راقب فاطمة وحاول أن يكتشف ما تخفيه من كنوز داخل خيمتها، وأمسكه الحارس الزنجي...
ادَّعى البلاهة والباشوية، ولم يكفْ عن التلصص، كان على يقين بعدم نجاة أحد من الذبح بعد الانتهاء من دفن آخر جرة ذهب، وكان بارعًا في استغلال الجميع من أجل النجاة بنفسه ثم العودة لإخراج الذهب...
وكانت البداية في كهف الناصرة،،،

يتبع .......
المصدر: نفساني



 

رد مع اقتباس
قديم 10-02-2018, 05:39 PM   #2
الحوراني
الرئيس
الرئيس


الصورة الرمزية الحوراني
الحوراني متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  05 2001
 أخر زيارة : يوم أمس (11:07 PM)
 المشاركات : 25,709 [ + ]
 التقييم :  396
 الدولهـ
Jordan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Blue


الحلقة الاولى ...

أنا أغنى رجل في العالم...مئات الجرار الملآنةِ بالذهب تنتظر عودتي. لا أحد يعرف أين دفنتها، لا أحد يستطيع الوصول إليها، لا أحد يستحق جرة ذهب واحدة، أنا ولا أحد سواي يعرف ويستحق كل هذا الذهب
لن أتسرع ولن أثق بأحد. بدايةً سأعود منفردًا وأُخرج جرَّةَ ذهب واحدة، بعدها سأمتهن التجارة حتى تغمض عنِّي العيون، هكذا سأتمكن من التجوال في أنحاء البلاد، وفي كل مرة سأخرج جرَّةَ ذهب وأعود بها في صمت
كثيرًا ما حدَّثت نفسي: ماذا سأخسر إن انتظرت قليلا! لن يفسد الذهب، ستعيد الدولة العثمانية بسط سيادتها مجددا على بلاد الشام، وهل خطر ببال أحدهم أن العالم سينقلب رأسا على عقب؟! مَنْ تخيل أن العرب رعاة الشاة والإبل سيتمردون على أسيادهم الأتراك
مرَّ عام تلو العامِ تلو العامْ، ولم يتغير شيء، جرار الذهب تنتظر عودتي، سخر مني القدر، هَرِم جسدي وشاخ، وذاكرتي اللعينة تأبى أن تشيخ؛ تذكرني دومًا بجرائمي التي اقترفتها، ونفسي تحدثني دومًا بأنني أغنى أغنياء الأرض، ولكنِّي –حقيقةً- لا أزيد عن كوني عاجزًا يعيش عالةً على حفيدته الوحيدة، لم أقترب من ذهبي، ولن أقتربَ مُجددًا، ومازال هاتفٌ مجنونٌ يصيح بداخلي بين الحين والحين: "أنا أغنى رجل في العالم!"
أمسكت بقلمي لأرويَ لحفيدتي ولكم القصة الحقيقية لقافلة الذهب الملعونة، وسأتحرى الدقة في روايتي، ستعرفون كيف حوّلت الخراف إلى ذئاب، وستأنفون من قذارة البعض مِمَّن رافق القافلة. وإن تساءلتم كيف لذاكرة عجوز أن تحفظ كل هذه التفاصيل الدقيقة، سأترك لكم اكتشاف الجواب
برقية شقت طريقها في أواخر رمضان عام 1914، من مُتَصَرِّفيّة نابلس إلى بيروت، ومنها إلى إسطنبول، حملها حارس المُتحف إلى بيت روهان بيك؛ عالم آثار في السبعينيات من عمره؛ وقد جرت العادة أن مثل تلك البرقيات لم تكن لتثير اهتمامه، إلا أن هذه البرقية جذبت انتباهه بشدة.
دعاني لأرافقه، ولو علمت حينها ما أعدَّ لي القدر، لاخترت البقاء واستنشاق الغبار بأحد الأقبية اللعينة الباردة، لو علمت...لاستمتعت برائحة الرطوبة والعفن، وما تذمرت من أكوام الصناديق التي تم تكديسها فوق رأسي يكسوها غبار كثيف، تنتظر مني وروهان أن نقوم بتصنيفها.
أنا عزيز أفندي المسؤول الأول عن حفظ كل الآثار الواردة من كافة أرجاء الإمبراطورية العثمانية، أستطيع أن أخبركم عن عدد القطع التي تم فرزها، نوعها، تاريخ وصولها، المكان الذي أحضرت منه، على أي رف تم ركنها، كل ذلك من ذاكرتي دون الرجوع لأي سجل، وما كان أحد يجرؤ على تحريك قطعة من مكانها دون أن أشرف على ذلك حتى روهان بيك نفسه.
أنا الأستاذ عزيز أفندي؛ عالم الآثار الكبير. عذرًا؛ فإنني لا أسعى إلى أن أصيبكم بالملل، ولكني ضعيف أمام أية فرصة تتاح لي لأستفيض في الحديث عن نفسي؛ اسمي، مكانتي، والألقاب التي حزت عليها بجدارة.
وصلنا إلى معسكر للجيش العثماني، بعد رحلة طويلة، توقفنا فيها بحلب ودمشق وبيروت وكان هذا يومنا الأول في فلسطين وعلمنا من مرافقنا أننا بـ "الجليل".
استقبلنا عند مدخل المعسكر ضابطٌ تركي برتبة ملازم أول يُدعى حيان؛ ولم يكن من الأسماء الشائعة بين الأتراك؛ كان في أواخر العشرينيات من عمره، فارع الطول، شديد الوسامة، برونزي البشرة، يتناسق أنفه مع قسمات وجهه، شاربه شديد السواد، تم تهذيبه جيدًا، ابتسامته الواثقة تكشف عن أسنان ناصعة البياض، حليق الذقن، تزين طرف خده شامة بنية صغيرة تسرُّ الناظرين، بِزته العسكرية نظيفة تخلو من أية طيَّات، لم تطمئن ذرة تراب واحدة فوق حذائه الأسود طويل العنق، وقف في كبرياء وعيناه السوداوان الواسعتان تشع ذكاءً، كما تشع مكرًا ودهاء؛ تصرخ في زهو "أنا تركي".
استقبلنا بترحاب لائق...وأخذ روهان يتفحصه بنظراته المستفزة، ويتمتم:
- عظيم عظيم...
ولا بد أن حيان قد تساءل سرًا عن مدلول "عظيم عظيم"، وأنا ما كنت لأتساءل، فقد اعتدت أنه حينما يتمتم بـ "عظيم عظيم"؛ فهو يرغب في استفزاز محدِّثه.
تمنيت ألا ينتهج أسلوبه التهكمي مع هذا الضابط التركي الفخور، وما كان لمريض السخرية هذا أن يكفَّ عن إشباع نهمه باحتقار كل وجهٍ جديدٍ يلقاه؛ يحرِّف الكَلِم عن مواضعه، ينتقي من دلالاته أحقرها، ثم يرسل لسانه السليط يرشها بصاقًا في وجه مَنْ أتعسه حظُّه بالنظر إليه، حين أفصح الملازم عن اسمه وعيه بأذنٍ واعيةٍ، ثم راوغه طالبًا أن يكرره مرات مدَّعيا حاجتَه في سماعه مرارًا ليرسخ في عقله، ولم يكن أمام الملازم الأنيق المهذب إلا أن يصفِّر كببغاء:
- اسمي حيان! حيان، حيان، حياااان...
وعلى الرغم من أن البيك لا يجيد العربية إلا أنه حفظ ما يكفي ويزيد من الشتائم، هز رأسه وبأسلوبه الساخر قال:
- قل لي يا حيوان أين يمكنني التبول؟ وهل بإمكاني خلع هذه البدلة قبل أن تخنقني، فما ارتديتها إلا لتنحنوا لها وتدلكم على أني بيك، ولست من العامة، ورفيقي عزيز أفندي الأنيق يرتدي باشا، وكان يرتدي سلطانًا في عيد الفطر.
لم أشك في قدرة الملازم حيان على تحدثه القليل من العربية، وبخاصة أن أغلب الجنود تحت إمرته من العرب؛ لقد أدرك القصد من تحريف اسمه إلى حيوان، ولم يكن غريبًا أن يمتعض لفعله ويسايره في جلافته، ولكن الغريب حقًا هو ردة فعله؛ لقد تعالى ضحكه -ولم يبد عليه التصنع- مشيرًا إلى مكان قضاء الحاجة، وهو يقول:
- نعرف مكانتك جيدا يا روهان بيك، وبإمكانك أن ترتدي أو تخلع ما تشاء واسمي حيان...حيان وليس حيوان.
رفيقي يرفع الكلفة سريعًا، وقد يهدم حواجز مكانته؛ أخذ يمازح صغار الجند في طريقه إلى قضاء حاجته، وبعدما أفرغ مثانته، استبدل ملابسه الأنيقة -التي أجبرته نازلي هانم على ارتدائها- بأخرى فوضوية لا تليق. لقد أحرجني ذلك كثيرًا، انتقلنا لتناول الطعام، وقد أمر الملازم بإعداده مسبقًا؛ ثلاث دجاجات هزيلة تم تحميرها، حتى كادت أن تتفحم، وبجانبها الكثير من البصل وحبات البندورة والخبز والزيتون.
بدا الامتعاض على وجهي؛ فمثل هذه المائدة تليق بخدم لا بباشوات، أعي جيدًا أننا بمعسكر لا تتوفر فيه أدوات الطعام اللائقة، ولكن هذا لا يمنع تنظيف الخُضَر وتقطيعها جيدًا، وهل ينتظر هؤلاء الهمج منا أن نشاركهم مثل هذا الطعام مهما اشتد بنا الجوع! وإن تواضعنا...هل يجب أن نقوم بتقطيع الدجاجات بحراب بنادقهم الصدئة!
هاجم رفيقي روهان إحدى الدجاجات، وبدأ افتراسها في همجية، وقضم حبة بندورة قضمةَ أحد العوام، وأخذ يتكلم وفمه يكتظُّ بالطعام.
أحرجني كثيرا بهمجيته وقلة تهذيبه، وما كنت لأنحدر نحو هذا الإسفاف، ولكنه الجوع الذي حثني على أن القليل من التواضع لن يضر. أمسكت قطعة من الخبز لتكون حائلاً يمنع اتساخ يدي عند الإمساك بقطعة من الدجاج، ولكنني تأخرت كثيرا؛ فالدجاجات الثلاث قد حلَّقت لحومهم تاركةً خلفها كومةً من العظام، فاكتفيت بتناول عدة حبات من الزيتون لإسكات جوعي، وامتنعت عن قضم البصل الذي أحبه كثيرا.
لقد كان الملازم أقل همجية على مائدة الطعام، وفور انتهائه ذهب لغسل يديه، أما روهان فقد تجشَّأ مُصفِّرا، ولم يحرك ساكنا، فاضطررت أن أرمقه بنظرة غاضبة، لعلها تحثه على أن يعجِّل بغسل يديه. حمدًا لله؛ لقد استجاب وغسل يديه ولكنه جففها بملابسه ورمقني بنظرة قائلاً:
- مبسوطة يا وزة هانم.
ما كنت لأعلق حتى لا ينتبه إلى قصده أحد؛ قصد روهان أن يشبِّهني بزوجته التي ما كانت لتغض الطرف عن تصرفاته المشينة؛ فقد كانت توبخه في أكثر المناسبات قائلة:
- تعلموا الإتيكيت من عزيز، تعلموا الأناقة تعلموا التهذيب، أنتم فضيحة روهان.
أحضر الجندي رشيد إبريق شاي تم تعذيبه لعام كامل فوق النار، فاكتسى بطبقة من السخام تحتاج عامًا آخر لتنظيفها، وعدة أكواب من الزجاج مهشمة الأطراف، تتوجب توخي الحذر الشديد قبل أن تمسها الشفاه، وشرع الملازم يتحدث في حماس عن الصدفة التي قادتهم لاكتشاف الموقع، وجعل جُلَّ حديثه حول المكان وما يحيط به، دون التطرق لما يحويه من آثار.
أصابنا الملل في انتظار انتهائه من سرد التفاصيل التي لا قيمة لها، ولكنه تعمد المراوغة في الرد على أسئلتنا حول محتويات الكهف، بدا حينها أنه يسعى لإثارة فضولنا وإلهاب شوقنا.
امتعض روهان وبرم شاربه الأشعث الفوضوي قائلاً:
- ما رأيك بشاربي يا حيوان؟ هل راقك منظره؟ هل يجب عليّ التستر على غزو الشيب له؟ أم أتركه وحاله؟
قصد البيك أن يكشف لحيان سُخف حديثه وملل عرضه، فلا وقت لديه للمراوغات التي اعتمدها البيك ذاته ليحدد طريقة تعامله معه بِناء على ردة فعله، ولكن فطنة الملازم أنجته من هذا الاختبار؛ فأجاب وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة هادئة:
- اسمي حيان ولم أكن حيوانًا قط! أمَّا عن شاربك فيجب عليك أن تضع له حدا، وألا تطلق له العنان أكثر من ذلك، عليك الاعتناء به...عليك ردعه وتهذيبه...يا بيك.
ضحك روهان قائلا:
- أحسنت الجواب يا ولد رغم أنك جمعت بين لساني وشاربي، والآن توقف عن المراوغة وأخبرني ماذا يوجد بداخل الكهف؟
رد عليه بحزم:
- لن أخبرك شيئًا، سترى بنفسك.
كان واضحًا أن الملازم لا يريد الخوض في أي حديث يتعلق بما يحويه الكهف، وأدرك البيك ذلك فسلك طريقة ملتوية في سؤاله:
- أخبرني إذًا، هل تبقى بالموقع شيئا لم تسرقوه بعد؟
حيان:
- لسنا لصوصا يا بيك. اطمئن لم يدخل الموقع غيري، وما كنت لأسمح أن يعبث بإرث السلف أحد.
برم البيك شاربه مرسلا طرف أنفه عاليًا، وقد اتقدت عيناه قائلا:
- لا...لا...واجب الجيش أن يسرق، ثم يسرق، ثم يحرس ما لا يمكن سرقته، يبدو أن هذا الكهف يفتقر لما يباع ويشترى!
لقد صارت بدلة الملازم العسكرية هدفا لا تخطئه إهانات البيك البذيئة، ولم تفارق الابتسامة وجه الملازم بعد؛ فردّ في تؤدة ووقار:
- لم أسمح لأحد بدخول الموقع، وفيه الكثير مما يمكن سرقته.
أعاد البيك شد أنفه عاليًا، مُغلقا عينه اليمنى، ووثب واقفا، ثم أشار بيده قائلا:
- إذًا هيَّا...لنتحرك الآن قبل أن تغير رأيك وتراودك رغبتك في سرقته أنت وجنودك، أو قبل أن يسبقنا أحد قادتك ليمارس واجبه العسكري في سرقته.
الحركات التمثيلية التي صاحبت قول البيك أخرجت حيان عن وقاره بعض الشيء، فعلا صوته مقهقهًا، وفور توقفه اعتذر لائما نفسه؛ لقد كان ودودا، لقد أثار إعجابي حقًا بهدوئه وسعة صدره، طالعت النظر في عينيه التي لاح فيها الكثير من الإعجاب بشخصية البيك الساخرة المستهزئة بكل شيء؛ بدا وكأنه متفق معه بما كال من اتهاماته للجيش، لم يعلن عن ذلك صراحة، بل اكتفى بصمته وطأطأة رأسه بين الحين والحين، ثم فاجأنا بحكوه عندما ضلل قائده، وأخفى عنه ما يزخر به الكهف؛ آملاً في وصول منْ يقدر قيمته...صمت حيان برهة، ثم أرسل بصره تجاه البيك، وقد خالطت ملامحَ وجهه البشوش لمحةُ حزنٍ عميق، ونطق بصوتٍ شجيّ وكأنه حشرجة الصدر:
- إنها جريمة نكراء أن نتعامل مع إرث الأسلاف بهمجية حمقاء.
طال حديثنا الذي كشف عن جوهر حيان الثمين؛ إنَّه من عُشَّاق التاريخ، لقد استطاع حيان أن يثير إعجاب البيك باتساع ثقافته وعظيم اطلاعه، ولم يسع البيك إلا أن يردد عبارة الملازم حيان:
- "جريمة نكراء أن نتعامل مع إرث الأسلاف بهمجية حمقاء". أحسنت يا حيان...أحسنت.
لقد كانت المرة الأولى التي يلفظ فيها البيك اسم حيان دون أن يتعمد تحريفه.
سأل البيك حيان:
- اعذرني أيها الملازم حيان، ألا تخشى أن يسرق جنودك الموقع في غيابك؟
ضحك حيان قائلاً:
- هم مرعوبون من الجان والأرواح التي تسكن الكهف.
وروى ما حدث للجندي كرم من جراء جرأته التي أقحمته في دخول الكهف. ضحك البيك وقال ساخرًا:
- الجان والعفاريت تسكن كُلَّ شبر في بلادنا، حتى طربوش السلطان سكنه من الجان ألوان، ولكن لدي سلاح سري أطرد به العفاريت وأحرقها، وكم أتوق لأطرد العفاريت التي تسكن طربوش مولاكم السلطان!
لا يجوز لي الضحك على أمر ذُكر فيه مولانا، ولكني لم أتمالك نفسي، ليغفر لي مولانا هذه الهفوة، ولو علم السلطان بسر سلاح روهان لأمر بقطع رأسه أولا، ثم لضحك بعد ذلك.
نهاية الحلقة الاولى ....


 

رد مع اقتباس
قديم 10-02-2018, 05:45 PM   #3
الحوراني
الرئيس
الرئيس


الصورة الرمزية الحوراني
الحوراني متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  05 2001
 أخر زيارة : يوم أمس (11:07 PM)
 المشاركات : 25,709 [ + ]
 التقييم :  396
 الدولهـ
Jordan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Blue


#الحلقة_الثانية
أمسينا نزلاء المعسكر استجابة لرغبة الملازم الذي رفض أن يفصح عما في الموقع، ولم يكن لديه سوى إجابة واحدة:
- سترى بنفسك غدا.
التمسنا له تبريرًا يقتضي حرصه على ألا تتطاير كلمة إلى مسامع الجند الذين تظاهروا بالانشغال عنا، وقد أرخوا آذانهم لالتقاط أية كلمة من حديثنا.
لم أمتعض كثيرا لتكتمه، ولكني انزعجت لتجاهله لي بقوله لروهان: "سترى بنفسك"، ولم يقل "سترون بأنفسكم"، ولكني لم أنبث عمَّا بداخلي.
غلب النعاس البيك وغفى أثناء الحديث، فأسرع الملازم وأصدر أوامره بتهيئة المكان لنأخذ قسطا من الراحة، حمدت الله على انقضاء هذه الليلة القاسية.
خرجنا من المعسكر، وكان رشيد يجلس خلف مقود سيارة، وقد أصابه التباهي حتى كاد يصيح بأعلى صوته:
- إنها سيارة. هل رأيتم سيارة من قبل؟ لماذا لا تندهشون؟ هيا افغروا أفواهكم من الدهشة، أنا عربي وأقود سيارة!
سارت جيدا بالمنحدر، وكادت تلفظ أنفاسها الأخيرة في المتر الأول للصعود، اقترح روهان على الجنود حملها على أكتافهم والعودة بها إلى لمعسكر، وليتهم فعلوا!
وبعد معاناة مريرة مع هذه المركبة العجيبة، اقتربنا من وجهتنا، ثم اضطررنا للسير على ظهر طرق وعرة، وبعد وصولنا أخبرنا حيان أننا على أطراف مدينة الناصرة، لم نكن على دراية بهذه البلاد لنطمئن لصحة حديثه، وراودني إحساس بأنها ليست الحقيقة، وما كان هذا ليشكل فارقا إن كنا بالقرب من الناصرة أم في مكان آخر، فكل ما يهمنا هو الكهف، وما قد نكتشفه بداخله.
أول ما طالعنا عند وصولنا معسكرٌ ضم خمسة أخبية قذرة ممزقة، يطوَّقها ما يزيد عن العشرين جنديا، ومن بعيد وقف الكثير من أولاد العرب يراقبون بشغف عسكرة الجند، وما اجترأ أحدهم على الاقتراب.
أبدى روهان استغرابه لتلك المغالاة في حراسة موقع أثري؛ فقال حيان:
- حينما ترى ما بالداخل ستفهم السبب.
اقتربنا من الصخرة، وأمر الملازم جنوده بتحريكها فتباطأوا وحاول كلٌّ منهم التملُّص بعدما دبَّ الرعب في قلوبهم وظهر أثره على وجوههم، فثارت ثورة الملازم، وعلى إثر صراخه وتعنيفه تزاحموا لإزاحتها في فوضى عارمة، وهنا تدخل البيك وأعاد ترتيبهم، وبعد زحزحة الضخرة ظهرت فتحة صخرية محفورة تسرب عبرها وميض نوراني من جوف الكهف المظلم، فتاهت عقولنا عن التفسير، وخُلبت أبصارنا عن النظر لسواه، وبُعثنا على التفاؤل، وسرعان ما فاحت رائحة أنعشت أرواحنا وأيقظت جُل حواسنا، وأثارت ريبتنا، فهمَّ روهان قائلا:
- الروائح الطيبة تقتل أسرع من الكريهة.
طلب روهان من الجميع الابتعاد، وحذر من الاستنشاق فابتعدنا جميعا بينما أبت الأنوف التي أغوتها هذه الرائحة الساحرة غير مبالية بالعواقب.
مرت ساعة كاملة قبل أن يُجزم روهان بخلو المكان من أية غازات سامة، جهزنا عدة مصابيح، هشَّمنا زجاج إحداها ليرشدنا ويحذرنا إذا انطفأت الشعلة، حملت حقيبة المعدات وأخذت أهبة الاستعداد لأسبق الجميع، لقد نفد صبري في انتظار اكتشاف ما في الكهف، وها هو أمامي...لقد حانت اللحظة الفاصلة، وحينئذ حدث ما تسبب في قتل إعجابي بالملازم.
اعترض طريقي وأثار غضبي حين تواقح ولم يسمح بدخول الكهف إلا لروهان، سمح لرشيد وحده ليساعد في حمل المعدات حتى مدخل الكهف، ولم يسمح له بالدخول.
حاول البيك أن يقنعه بضرورة وجودي برفقته، ولكن الملازم كان حازمًا في قوله:
- بعد رؤيتك.. عليك باتخاذ قرارك.
أسرع البيك نحو بوابة الكهف الحجرية الضيقة التي بالكاد تسمح بمرور من هو بنصف حجمه، واستغرقه وقت حتى استطاع أن يدفع جسمه الممتلئ عبرها، لن أنسى أبدا وقاحة الملازم، لم تنصرف عن خاطري تلك الطريقة التي قلل بها من احترامي، وحقَّر بها من مكانتي، لقد حرمني مشاركة الاكتشاف بعد كل هذا العناء، لم يعد أمامي شيئًا سوى الانتظار والبحث عما قد يساعدني في تمضية وقت ثقيل الخُطى.
يقف الجند كالأصنام، أفواههم مطبقة، آذانهم صماء، وجوههم عابسة، يراقبون بعضهم بأطراف أعينهم، يعتصرني وجع الفضول، ولست أدري ماذا أفعل.
تجنبت الاقتراب من العرب، اخترت تركيًّا، حدثته؛ أنا الأستاذ الكبير، عالم الآثار المسؤول، عن متاحف تركيا وبلاد الشام والأناضول، أفندي، بيك، باشا، ربطة العنق التي ما زلت أرتديها تؤكد حقيقة قولي، عينا هذا الجندي لم تخفِ استغرابه، لقد سُمح لصاحب الشارب الكثيف المتسول المغبَّر بالدخول، وأنا الأنيق النظيف لم يُسمح لي.
دبَّت الروح في الأصنام المتسمرة، تجمع حولي حفنةٌ من الجند، كنتُ بينهم الأقصر قامة، أخذت أتطاول بعنقي، سألت عن الكهف، لم أنته من سؤالي بعد، تسابق الجميع في الثرثرة، قصُّوا عليَّ ما حدث، تطوع كلٌّ منهم بطريقته؛ يشرح، يحلل، يخمن، امتدحت فيهم براعتهم في تملقي.
كانت ثرثرتهم قليلة الجدوى، يعذبهم الفضول مثلي، جُلُّ ما في جعبتهم لا يتعدى التخمينات، اتفق الجميع على أن الجندي الذي تجرَّأ على كشف المجهول قد أصابته جِنَّةٌ بعدما تلبَّسته الجِن.
لو سمع روهان بيك روايتهم عن الجن والعفاريت لأشهَر سلاحه السري في وجوههم؛ ذلك السلاح أشهره في حلب قبل عدة سنوات، حيثما اكتشفنا موقعا أثريا، يحوي أربعة تماثيل صغيرة من الذهب، وما يفوق الخمسين تمثالاً من الفضة، وعدد كبير من القطع البرونزية، حينها قررنا نقل كل ما في الموقع إلى تركيا، ولكن فاجأنا رفض الجميع دخول الموقع بعدما سرت شائعة الجان الذي يسكن المكان، ليصيب كل من يلمس التماثيل، فخلع روهان بيك بناطله وتبول على سكن الجان حيث أشاروا، وقهقه قائلاً:
- بولي سيطرد عفاريتكم، هيا انقلوا التماثيل إلى العربة قبل أن يزول تأثير بولي السحري.
وعلى الفور غادرت العفاريت عقولهم وتم نقل التماثيل، يومها اقترب مني وهمس في أذني مازحا:
- هل يسكن الجان رأسك لأطرده يا عزيز؟
فأجبته على الفور وأنا على يقين بأنه لن يتردد في التبول علي:
- الخرافات غادرتني منذ لقائي بشاربك العظيم يا بيك.
امتدح إجابتي، وقال:
- أدفع ما تبقى من عمري مقابل تبولي في طربوش السلطان.
امتعضت واستغفرت الله، لقد نشأت على تقديس مولانا؛ فالتطاول عليه يُعدُّ كُفرًا.
لقد طال انتظاري ولم يقدم لي الجند ما يروي غُلَّتي، ويشبع فضولي. قررت أن أتحدث إلى أحد المحليين الذين يراقبوننا من بعيد، ولكن هيهات...لقد كانت لدى رشيد أوامر تمنع أي شخص من مغادرة الموقع، بل ومن التحدث أيضًا، لقد كان هذا العربي الحقير الذراع اليمنى للملازم، وأمين أسراره.
مرَّ وقت طويل والبيك داخل الكهف، والقلق بدأ يساورني، لا أريد أن يصيبه مكروه، سيسعدني إن اختنق الملازم ولم يعد ثانية، لا ينبغي تمضية كل هذا الوقت داخل الكهف دون الخروج لنيل جرعة هواء نقي.
تبدد قلقي حين خرج البيك من الفتحة الضيقة حاسر الرأس، أقصر طولا، وأقل وزنا، وأخذ يصرخ بأعلى صوته كعادته:
- أين الطربوش يا عزيز؟ أين الطربوش؟
ما أحمقني! كان يجب أن أتوقع وأتجنب الحرج، تبًا له ولطربوشه! كان بإمكانه أن يهمس في أذني لطلب طربوشه اللعين، ماذا كان سيخسر لو سألني في كياسة: "أين الطربوش يا أستاذ عزيز أفندي؟" أينتقص من هيبته شيئًا لو حافظ على هيبتي أمام هؤلاء الأوباش.
دوى صوته كالرعد، لفت انتباه الجميع، الجميع يراقب ردة فعلي، الجميع كان يتودد إليَّ منذ قليل، قهرني ذلك الفظ الفوضوي، الذي اكتسى الغبار فوق كِساء الفقراء الملتصق بجسده السمين.
تمنيت لو أن الأرض غيبتني، تظاهرتُ بمخاطبته شخصًا آخر، ولكن لا أحد غيري يُدعى عزيزًا. إصراره على تكرار سؤله ساقني على الرد:
- ربما سقط في الكهف يا بيك.
هزَّ رأسه:
- معقول...معقول...اذهب واحضر لي الماء لأغتسل. أسرع يا عزيز.
قتلني هذه المرة، لو استطعت تبرير أمر طربوشه، كيف سأبرر خدمتي له! كرر البيك ما طلبه وأسقط الطربوش عن رأسي ودحرجه، عراني أمام الجميع، وثيابي الفاخرة وربطة العنق الباشاوية ما عادت قادرة على ستر شخصيتي الحقيقية، خلعت حذائي الإيطالي المدخر، بعدما فقد بريقه في عيون هؤلاء الجند الجهلة المصدومين بما وصل إلى مسامعهم، أيعقل أن هذا الباشا الأنيق الأستاذ الكبير سيقوم بخدمة ذاك العجوز المغبر!
انشغل الجميع بمراقبتي، هل سأصفع العجوز؟! أم سأحضر الماء ليغتسل من قاذوراته؟! لقد حولتني كلمات البيك من باشا إلى خادم، حدثتني نفسي المقهورة:
- لن يعيبك إن تواضعت قليلا.
جلبت الماء، تقمَّصت ثقتي بمكانتي وباشاويتي، ولم يرحمني عزاء نفسي، دعوت الله سرًا أن يغتسل داخل الخيمة، لا تهمني قذارة الخيام الآن، يهمني ساتر يرحمني، يتستر على امتهاني وإذلالي أمام الحشد الذي بذل جهده لتملقي، والتسابق على خدمتي، لو أردت تقبيل يدي لفعلوا، أشك بأنهم سيغفرون لي خداعي، أيقن الجميع بأني لست أكثر من خادم البيك.
استجيبت دعوتي، دخلت الخيمة فإذا به قد تمدد على الأرض وألقى رأسه على إحدى الحقائب، أغمض عينيه، همست بصوت خافت:
- لقد أحضرتٌ الماء.
جاهرت بندائي مقتربًا من أذنيه، كان متجهم الوجه، بدا أكبر من عمره بعشرة أعوام، سربله الغبار، أشفقت عليه، أخذت أمسح الغبار بقطعة قماش جافة عن وجهه وشاربه...لم يستيقظ.
حيرتني هيئته، ثمالته، ما كان ليفترش التراب! أو يلتحف الغبار! أو يتوسد حقيبة متحجرة! اعتاد عنقه الرخو وسادة واحدة، أحملها معي حيثما نذهب، كان يفضل جفاء النوم على توسد غير وسادته اللينة، فوضوي لا يأبه أبدا بما يرتدي، يسخر دومًا من أصحاب الملابس الفاخرة، يردد دائما: "الأناقة تخفي عيوب الجسد لا العقل"، إلا أنه كان مصابا بوسواس الغبار، طوال سنوات رفقتي لم يلامس غبارا إلا واغتسل سريعًا بالماء والصابون، ما كان ليصبر إن أصابه، فقد كان الغبار عدوه الأول.
أيعقل أن عفاريت العرب قد لوثت عقله! كيف غفي دون الاغتسال واحتساء نصف زجاجة عرق!
أعددت فراشه الخاص، وبعض الطعام، وزجاجة عرق، تريثت قليلا قبل إيقاظه ساءلت نفسي:
- ماذا اكتشف بداخل هذا الكهف اللعين ليقلب حياته رأسا على عقب؟! لقد رافقته إلى بغداد وقبرص والشام، دخلنا العديد من مواقع الأثر، لم يكن روهان مثل ذلك قط، هذا ليس روهان بيك الذي أعرفه!
خرجت من الخيمة، خلَّفته نائما، ولم ينشغل بالي بما يتخيله الجنود تجاهي، ما عدت مهتمًا إن كنت مجرد خادم أو أستاذ...أفندي، ما يشغلني فعلا هو ذلك السر الكامن خلف الفتحة الضيقة، لابد أن اكتشف ذلك بنفسي، جلست على صخرة أراقب الجميع، وأنتظر فرصة مواتية لأنسلَّ إلى الكهف.
نصف القمر المضيء كان كافيا ليكشف رؤيتي، طال انتظاري، أصابني الملل، وحين تأكدت أن رشيدًا بعُد عن الكهف، اقتربت من أحد الجند المتصنمين بالقرب من الفتحة، كان جالسا على حجر يتكئ على بندقيته، لو لم يصل إليَّ شخيره لما شككت في نومه. نِعم الحارس هو! الله وحده يعلم في أي حلم هو غارق!
تسللت، انحنيت بجسدي الضئيل، لم أجد صعوبة في عبور الفتحة، أضاء القمر ما وراء المدخل، سهُلت أولى خطاي، لم أحمل معي مصباحًا ينير طريقي، تركت أنفي يبحث عن الرائحة العجيبة التي سرقت عقول الجميع، ولكنه لم يلتقط من عبيرها إلا نفحات يسيرة، يبدو أنها في طريقها إلى التلاشى والاندثار.
عشر خطوات بعد الفتحة الأولى قادتني إلى فتحة أكبر، لم تجبرني الثانية على الانحناء، دخلتها منتصبًا، عدة خطوات تجاه اليمين أوصلتني إلى درج منحدر، زاد عدده عن الأربعين، أخذ يميل بي ناحية اليمين رويدا رويدا، إلى أن قادني إلى الأسفل، ألفيت نفسي في ممر مستقيم لا اعوجاج فيه، يزيد عرضه عن الأربعة أمتار، يتوسطه رسمٌ مذهَّبٌ بطول ذراعي، يتجاوز ارتفاعه الثلاثة أمتار حيث أقف، ويزداد ارتفاعا كلما ذهبت عيوني بعيدا.
نهاية الحلقة الثانية ...

يتبع .....


 

رد مع اقتباس
قديم 10-02-2018, 05:45 PM   #4
الحوراني
الرئيس
الرئيس


الصورة الرمزية الحوراني
الحوراني متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  05 2001
 أخر زيارة : يوم أمس (11:07 PM)
 المشاركات : 25,709 [ + ]
 التقييم :  396
 الدولهـ
Jordan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Blue


الحلقة الثالثه ...

الأرض مرصوفة بفسيفساء تحيط بالرسم الذهبي، لا تجاوز القطعة الواحدة حجم إبهامي، متعددة الألوان، تشكل رسوما وأشكالا هندسية منوعة، أعجز عن تفسير ما تدل عليه من معنى. أمحِّص النظر، ولا يأسرني سوى الرسم الذهبي، ينتابني إحساس بأنه سيل من ذهب، تم صهره وصقله وتصفيته من كل شائبة، لينتصف هذا الممر العجيب.
تساءلت: كم يبلغ سُمكه؟! وهل ما أراه لا يتعدى طبقة رقيقة؟! أم هو مجرد طلاء ذهبي اللون؟! أيحتمل أن يكون مادة شبيهة بالذهب؟! ممتدة هي المساحة التي يحتلها الرسم، أرغب في التصديق بأنه سيل لا نهاية له من الذهب...هام خيالي مجنحًا في عالمٍ وهميٍّ من الثراء...حدثتني نفسي في إمكانية عثوري على مطرقة لأقتطع ما يعينني على تحقيق أحلامي الباشوية.
وقفت مشدوهًا...لم يكن من اليسر أن تتحول عيناي عن أسفل قدمي، الجدر عن يميني وشمالي منقوشة زينتها لوحات بديعة من الفسيفساء، لم أرَ شبيها لها ذي قبل.
أعجز عن توصيف بشر قد احترف وأتقن إلى هذا الحد، تنزهت اللوحات عن كل عيب ونقص، شارفت على حدود الكمال الإبداعي، يعجز عقلي وينعقد لساني كلما حاولت وصفها، وذاكرتي خاوية عن شبهها وكأنني لم أقف في مكان أثري قط.
لم تبق زاوية إلا وسكنها الإبداع، حثني اتساع المكان على العجلة قبل أن يُكشف أمري؛ أرسلت عيناي تلتقط مصورة من الصفحات ما يمكن لذاكرتي تخزينه، وما كنت لأقاوم الإغراء بالتوقف أمام كل ما يستوقف عينيَّ، وكأني أخشى أن تتلاشى إن أشحت ببصري عنها.
يدفعني شكِّي بوجود أبواب مموهة يساير تموجُها تموجَ الرسومات عن يميني ويساري، كتلك التي شاهدتها بسراديب بابل. أكاد أسمع دقات قلبي، تأخذني الرهبة، وما زلت واقفا، لم أتقدم أكثر من خطوتين عبر ممر لا أرى نهاية له، عيناي في غيبوبةٍ لا تستفيق، أتجنب النظر إلى الأسفل؛ هاربا من السحر القابع تحت قدمي، أرسلت بصري عاليا، فلم أدر حقيقة ما طالعني؛ قد يكون السقف مطليًّا بطلاء حالك السواد كظلام ليل دامس، وقد يكون شاهقًا لا نهاية لارتفاعه، حيث أقف أرى السقف واضحًا، وبعد أمتار يبدأ في الاختفاء، أشعر أنها خدعة بصرية عظيمة ومتقنة، السقف يبدأ مستقيمًا، ثم يتجه إلى الأعلى في صعود.
أرى حمامة بيضاء تحلِّق وتخترق السقف؛ تختفي وتعود لتظهر من جديد، وكأنها تخبرني بألا سقف للمكان، لونها الأبيض ما كان ليخدعني، هناك تحلق وتختفي. يظلني سقف مائل؛ يرتفع أحيانا ثم ينحدر، الكثير من الزوايا لا يدركها بصري.
كنت أرغب في التقدم للأمام قبل أن يتدخل عقلي اللعين ويسرق طمأنينتي بسؤالٍ أثار ريبتي، وأدخل القلق إلى نفسي: كيف لعيني أن تصلا إلى هذا الحد من الوصف في مثل هذا المكان؟! من دواعي الجنون أن يذهب ظنِّي إلى أن شطر القمر بضوئه الباهت استطاع أن يتجاوز الفتحة الأولى، ويتسرب عبر الثانية، ويلتوى وينزلق إلى الأسفل لينير هذا الممر العظيم!
أيُعقل أن البيك وحيان قد أشعلا مصابيحًا قادرة على توفير هذا الكم من الضوء! أم أن هناك عشراتٌ، بل مئات من الفتحات في السقف، يتخللها هذا الكم الهائل من النور، أم أن هناك مصابيحًا عملاقة مخبأة في مكان ما ينعكس ضوئها عبر مرايا ضخمة لتنير الممر.
لم أسمح لنفسي أن تنساق في هراء خرافي لتفسير هذه الظاهرة الغريبة، لابد من تفسير عقلاني؛ آلية ما تسمح بتجميع الضوء وعكسه عبر مرايا مخفية، لابد أن لسيل الذهب دور في إنارة هذا الممر، أتذكر رؤيتي لمثل هذه الظاهرة في أحد المواقع الأثرية بالعراق.
لعلِّي أعيش هذه اللحظة داخل حلم من أروع الأحلام وأعجبها، ومن الحمق السعي لمغادرته، ولكن حتى الأحلام هناك من يفسدها؛ ربتت يدٌ على كتفي في هدوء، أدركتُ بأني لست حالمًا، التفتُّ مرتابًا فإذا بـ البيك واقفًا خلفي برأسه الكبير، يقول خلف شاربه الفضي:
- ماذا تفعل يا عزيز الأحمق؟
في ارتباك:
- أبحث عن طربوشك يا بيك.
أمسك يدي في حنان أبوي، وسار حتى أول الدرج، وطلب مني الخروج، ومكث داخل الكهف، كان نظيفا وقد استبدل ملابسه، وبدا أصغر من عمره حينما تركته نائما.
خرجت فإذا بنور الشمس يلاطف عيني، تساءلت في سذاجة:
- من أين أتت الشمس! لقد خلَّفتُ القمر ورائي منذ دقائق، لم أمضِ في الكهف أكثر من خمسة عشرة دقيقة.
لم أجهد نفسي بالبحث عن تفسير؛ خشية أن تغرقني تساؤلات تتأبى على العقل؛ فأنا لا أعترف بالخوارق، ربما قد غفوت، لعل روعة ما رأيت سرقتْ مني وقتي كما سرقتُه من أعين الأحراس.
عاودتني حيرتي ثانية:
- لقد كان المكان نظيفًا، لا أثر فيه لغبار، كيف اتسخت إذًا ملابس البيك! هل هناك مكان آخر يعج بالغبار! سأُعد قهوة البيك، بينما أسترجع بعض ما سجلته ذاكرتي؛ لعلي أعثر على الوقت المفقود!
أعددتها على عجل، مع قطع من البسكويت والشوكولاتة، لقد اعتاد البيك تناولها كل صباح، عدت إلى الكهف إلا أن حيان اعترض طريقي ولم يسمح لي بالمرور، لم أُخفِ استيائي من تعامله، تلقَّف القهوة وانزلق عبر الفتحة، وقد آثرت الانسحاب، بعدما أوعز إلى أحد جنده بالبقاء أمام الفتحة لحراستها، ولم يكن هناك غيري ليحاول اختراقها.
عدت إلى الخيمة لعلِّي أستطيع أن أنعم بقسط يسير من النوم، لم أنم منذ صباح الأمس، استلقيت على الفراش الذي أعددته للبيك بالأمس، كان قد قضى ليلته فوق التراب...لعنت الملازم ألف مرة على إفساد هذا الصباح الجميل، تمنيت له صباحا مليئًا بالعثرات والشؤم والنكد، وددتُ لو يرتطم رأسه بأحد الجدر فتتوه ذاكرته، ما كان على البيك أن يعظِّم من شأنه، وينصاع لأوامره، ومن هو لينعم بروعة هذا المكان ويحرمني منه!
أشك في أن يحرمني البيك من الاطلاع على أسرار الكهف، سأنتصر وقتها على هذا الملازم الوقح صديق العرب، وقتها سيدرك مكانتي، أعلم جيدا أن الثياب وربطة العنق لن تستر حقيقة أسرتي الفقيرة مهما ادعيت الانحدار من أصل ثري.
والدي كان مؤمنًا بأني مَنْ سيرفع شأن العائلة، بعد استشهاد شقيقي الأكبر، واعتاد مناداتي منذ الصغر "يا أفندي، يا بيك، يا باشا."، كان يرى في الباشوات آلهة تستحق التقديس، ومخالفتهم تصير كفرًا، لقد زرع فيَّ منذ صغري أني يوما ما سأكون من كبار رجال الدولة، لم أرث من ورائه سوى هوسه بالمكانة الاجتماعية، لستُ ألوم أبي، لقد أفنى عمره يعمل طاهيًا للباشوات، ينتقل من قصر إلى قصر، تحول إلى شخصية مهمة في عيون العامة، وبخاصة هؤلاء الذين كانوا في حاجة إلى خدمة لن يستطيعها إلا الباشوات، وهكذا تحولت أنا إلى ابن الباشا، وكنت أتناسى بأنني ابن طباخ الباشا، اكتسبت من والدي مهنة الطهي، وتقليد الباشوات في تصرفاتهم وثيابهم.
غلبني النعاس ولم أستيقظ إلا على صوت شجار وقع بين اثنين من الجند بجوار الخيمة، أدركت أن الساعة الواحدة بعد الظهر، سألت جنديا إن كان البيك قد خرج من الكهف أثناء نومي، فأجاب:
- البيك والملازم لم يطلا برأسيهما.
سألته عن رشيد فأخبرني بعودته إلى المعسكر.
أحضرت الطعام سريعًا، فلا يجوز ترك البيك كل هذا الوقت دون أن تطمئن معدته، أعددت الشطائر على عجل، حملتها تجاه مدخل الكهف، الذي يحرسه اثنان من الجنود، حاولا منعي بموجب أوامر الملازم اللعين، فقدت الكثير من هيبتي، وهؤلاء الأوغاد الذين أحنوا رؤوسهم أمام حضرتي قبل يومين، لا يكترثون بي الآن، ها هم لا يعيرونني اهتماما؛ يحدثونني وهم جلوس؛ لم يقفوا، أو يلتفتوا تجاهي.
في أعينهم شماتة، وربما اعتقدوا أنهم أعلى مني مكانة، لم أجد أن تكرار اسمي ومكانتي سيترك أثرا في نفوسهم مثل ذي قبل، إلا أنِّي ما زلت خبيرًا في بث الرعب في قلوب أمثال هؤلاء، إنني أستطيع إصدار الأوامر على طريقة الباشوات، أخذت أهددهم وأتوعدهم باسم ومكانة البيك، حذرتهم العواقب التي تنتظرهم إن لم يصل إليه طعامه سريعا، تنحى الجنود العرب، وهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن خادمًا تركيَ الأصل أفضل في هذه الدولة من العرب قاطبة، فكيف إذا كان يتحدث باسم "بيك" تركوا القرار بمنعي أو السماح لي بيد الأتراك منهم، وقد رضخ الجند الأتراك بعد ذكري لـ"الصدر الأعظم" وعلاقته بـ"البيك"، لقد اختار الجميع مُخالفة أمر الملازم وتحمُّل ما يخلِّفه من عواقب، على إغضاب "بيك" يتضور جوعا داخل كهف.
عبرت الفتحة، أعرف طريقي جيدا، لم يكن الضوء قويا كما كان بالأمس، اعتقدت أنه بسبب ميل الشمس نحو الغرب، ولكن لا منطق باعتقادي، فلا ضوء القمر ولا الشمس قادرًا على الانحناء والالتواء ليمر عبر الكهف، بدأت أتفحص الممر من جديد، تأكدت بأن طوله يزيد عن السبعين مترا، تساورني رؤية جدار عاكس للضوء عند نهاية الممر، ربما تأخذه انحناءة تدريجية في اتجاه آخر، أتوهم أنني أقف في بداية ممر لا نهاية له.
لم أفارق البوابة الأولى بعد، لم أخطو خطوة واحدة فوق الفسيفساء، ولم تبد أية آثار لخطوات البيك وحيان حيث أقف، تقدمت خطوات معدودة؛ أبحث عن أبواب خلف اللوحات المنمقة؛ تحسست الجدار، فطاوعني بابٌ لا صرير له ولا حفيف، وكأنه صُنع من حرير ناعم.
تقبع خلف الباب غرفة فارغة، لا يتجاوز عرضها المترين، تسرب الضوء إليها بقوة تفوق الممر، ازَّينت جدرانها، أبدعتها براعة فنان لا نظير لها، تعكس بريقًا لامعًا، وكأن أحدهم واكب على تلميعها منذ نشأتها.
غادرت الغرفة، وبحثت عن مقبض لأعيد إغلاق الباب فلم أفلح، حاولت جذبه مرات فاستحال عليَّ تحريكه، كأنه تحول إلى جدار آخر، توقفت برهة...لمسته مُجددًا بأناملي فإذا به ينفرج انفراجة يسيرة، ثم يندفع لينغلق من تلقاء ذاته. دفعة خفيفة تكفي لفتحه، وأخرى تستوجب إغلاقه؛ تصميم مبتكر نجيب، لم تبهرني طريقة فتحه وإغلاقه بقدر انسيابيته وصمته.
باب مخفي آخر في الجهة المقابلة، اقتربت منه لأفتحه بنفس الطريقة فلم يطاوعني بسهولة، إن ملامسة الأنامل لفتح الباب لم تكن اعتباطية، لقد حالفني الحظ فكان لقاء أناملي بتلك البقعة المجبولة على سر الفتح والانغلاق. الغرفة لا تشبه الأخرى في شيء؛ حجمها أكبر بأربعة أضعاف، خاوية لا تحوي شيئا، طليت جدرانها وسقفها بطلاء أسود، أرضيتها قطعة رخام واحدة سوداء اللون، هذا ما رأيته ولكني لم أخطُ خطوة واحدة نحو الداخل، لا منطق في أن تكون الأرضية قطعة واحدة، ربما كانت قطعًا متعددة، يتستر عليها لمعان سوادها، حدثني قلبي أن هذه الغرفة تحتضن ممرًّا سريًّا يقود إلى سرداب ما، انتابني شعور سيئ تجاهها، فأغلقت الباب كما فعلت مع السابق، ربما سأعود فيما بعد لأثبت صحة توقعي.
لم يعد لدي شك في وجود عشرات الأبواب عن يمين الممر ويساره كنت سريع الحركة، أسابق الوقت، أفتح الأبواب، الواحد تلو الآخر، تغزوني شهية لالتهام كل ما أراه دفعة واحدة، الكثير من اللوحات والمنحوتات المزينة بأحجار كريمة، حاولت أن أخلع بعضها بأظافري، لو كنت أحمل سكينا لحملت معي ما يكفي لأكون باشا.
لن أخرج خالي الوفاض في مرتي القادمة، ما زال أمامي الكثير من الغرف، وربما وجدت ما يسهل حمله. أرتاد غرفة أخرى لأسمع صهيل حصان، أبحث في عينَي، أرى نقاء الثلج في لونها، سواد الليل في مقلتيها؛ فرس عربية أصيلة، اندفعت عبر الباب، وكأنها بانتظار من يحررها، تفاجأت... تجمدت أعضائي، جمالها منعني الخوف، أبهرني بياضها الناصع، ترميني بنظرة من عينيها الكبيرتين البراقتين، نظرة عتاب حزينة، كأنها تعرفني منذ زمن، تسير في الممر هادئة مطمئنة، شعرت بأن عليَّ أن أتبعها، لم أجد الوقت لأتساءل من أين جاءت وكيف، ولماذا!!!؟؟؟
نهاية الحلقة الثالثة ....

يتبع ...


 
التعديل الأخير تم بواسطة الحوراني ; 11-02-2018 الساعة 08:59 AM

رد مع اقتباس
قديم 10-02-2018, 05:46 PM   #5
الحوراني
الرئيس
الرئيس


الصورة الرمزية الحوراني
الحوراني متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  05 2001
 أخر زيارة : يوم أمس (11:07 PM)
 المشاركات : 25,709 [ + ]
 التقييم :  396
 الدولهـ
Jordan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Blue


الحلقة الرابعه ...
تركت المنطق خلفي، أتبعها وهي تدب على الأرض في دلال، لم تبتعد كثيرا، تصهل وتميل بناصيتها، ترسل إليَّ نظراتٍ حانية، ساقتني قدماي إليها، ألامس عنقها الطويل الرقيق.
وفجأة...بدأت تذبل بين يدي؛ لونها يبهت، حيويتها تموت، جمالها يرحل في صمت، خطَفتْ يدي عنها؛ لتعود إليَّ من جديد، اعتقدت أني واهم، أردت إعادة الكرة، تركتني وانزوت بجانب الجدار، تحكُّ به طرف بطنها المستدير، أقترب مرة أخرى، تتركني ثانية، التصقتْ بالجدار، دفعت بنصف جسدها داخله، تغوص داخل الجدار! ترميني بنظرة من عينها المُتحررة، أشعر أنها تقول وداعا، أخاف أن تتركني، أريد البقاء معها؛ لقد سحرتني، عشقت النظر إليها، أمد يدي لأتحسس ما بقي منها، تحجرت يدي قبل ملامستها بعدما تحولت ساحرتي إلى منحوتة حجرية.
ارتعبت قليلا، فركت عينيَّ، أفتِّش داخلي عن منطقي اللعين؛ همس لي:
- عزيز... أنت واهمٌ... واهمٌ يا عزيز... كلُّ هذا كان من نسج خيالك.
لن أصر على صدق ما رأيت، من الحكمة أن أُكذِّب عينيّ، وأتجاهل حواسي، وأطرد شطحات عقلي، هذا ما علمنيه البيك في قولته:
- إن الأوهام تتعاظم إن أفسحت لها المجال، وما لا تستطيع إثباته عبر العقل اطرده من مخيلتك فورا، وإلا ستبدأ القطط بمراقصة الكلاب على إيقاع موسيقى تعزفها الفئران.
إنه لعجبٌ عُجابٌ أن يصير التوهم حقيقة، أن يصور لي عقلي هذه الفرس، أن يتملكني الظن بأنها تنبض بالحياة، أن تدب الروح فيما لا روح له، أن يجاوز الفن حدود اللامعقول، ولكن ليس عجبًا أن ينخدع عقلي أمام هذا الإعجاز الإبداعي، تُرى كم أمضى هذا الفنان على هذه المنحوتة! عام! مئة عام! لا شك أنه قد فارق الحياة، وإلا لكان الآن واقفًا مشدوهًا من بديع صنعه، يتأمله، يغور في أنفاسه، يذوب في أريجه، يرتحل إلى عالم اللاحدود، عندها لابد أن يصهل وتتكلم الفرس ... ليتني كنت جزءًا من هذا المكان! لا يهم ماذا أكون، سأرضى أن أكون قطعة فسيفساء، لوحةً، حجرًا، أيَّ شيء؛ فلا أشك في أن الروح ستدب في هذا المكان يومًا ما.
على الجانب الآخر كان هناك دب أبيض؛ قصدني...أتقهقر...أتحسس خطواتي...يلتصق الدب بالجدار...يفعل مثلما فعلت الفرس...أرتجف...سرت قشعريرة في رقبتي وظهري...أغمضت عينيّ مرددًا:
- عزيز...أنت تهلوس، الرائحة تدفعك للهلوسة، أفق وإلا سرقتك الأوهام.
تنفست الصعداء...أخرجت زفيرًا، طردت خلاله أوهام عقلي ومخاوفي، فتحت عيناي...تمر أمامي حمامة بيضاء، لا تشبه سابقتها، سمعت هديلها، لاحقْتُها، تظهر وتختفي، تجوب المكان، وقفتْ على ظهر الفرس، تميل الفرس برأسها...رمقتني بنظرة غامضة، اقتربت منها قليلا...لم تهرب الحمامة، بل -هي الأخرى- غاصت في الجدار، وبرز نصفها.
صوتي حبيس...أجاهده:
- عزيز...عزيز...أنت تهلوس، كل ما تراه هلوسات من أثر الرائحة العجيبة، لعلها مُزجت بالأفيون، أفق يا عزيز.
بُعثت الفرس من جديد، هرولتْ نحو نهاية الممر، تبعها الطائر مُحلِّقًا! غرزت أظافري في راحتي، خدشتُ جلدي، لقد سال دمي، وأنا أصرخ في صمت:
- سيسخر منك البيك، ستصبح أُضحوكة الجميع.
من خلفي...وصل مسامعي صوت يناديني:
- عزيز...عزيز.
لقد كان حيان يناديني همسًا، وكأنه يخشى أن تجفل الفرس، أو يهاجمني الدب، وددت لو أنني أهلوس بسماع صوته، رغبت أن يعلو صراخي: "ماذا تريد مني؟ دعني وشأني أيها الحقير."
كان بعيدا، على مقربة من مدخل الكهف، يشير بيده:
- تعال يا عزيز.
اقتربت منه، تلحُّ عليَّ رغبتي في البكاء، واتتني جرأةٌ حمقاء، صرخت قائلا:
- ماذا تريد مني! لماذا تعترض طريقي! لماذا تكرهني! ماذا فعلتُ لك يا حيوان؟!
أفرغت غضبي، وصاحب راحتي ندمي؛ فقلت:
- أحضرت لكم الطعام.
ابتسم قائلاً:
هيَّا لنخرج.
سألته عن البيك فأخبرني بأنه خرج باكرا، أدهشني؛ فعاودته:
- وكيف لم أرَه؟!
ابتسم ساخرا:
- هيا يا عزيز، صدِّق روهان؛ سيقتلك فضولك يوما ما.
استفزني هدوؤه...تبعته، تمنيت لو أن هناك بابا خفيًّا أغلقه دونه، وأعود باحثًا عن الفرس، أطلَّيت برأسي من الفتحة، ليستقبلني القمر هذه المرة، أغرقني في حيرة احتساب الوقت، سألت الملازم في سذاجة:
- هل ترى القمر؟
أكَّد رؤيتي قمرًا حقيقيًّا، لستُ واهمًا...أستغرب سرعة الزمن! أستغرب ألغاز الكهف! أستغرب نفسي!
علمت أن البيك وحيان قد مرَّا دوني داخل الكهف، لم أنتبه لوجودهما، لقد طلب البيك من حيان أن يتركني، مادمتُ لا أقترب من نهاية الممر.
دخلت الخيمة، فإذا بـ "البيك" يغط في نوم عميق، أردتُ إلقاء الشطائر... ولكن من الافضل أن أستميل بها الجند؛ قدمتُها لهم، فرحوا كثيرًا، دار بيننا حديث طويل، قاسموني على سماع أصوات عند الكهف؛ لغات غريبة على مسامعهم، جاريتهم قليلا...
اعلم جيدا ان هذا لا يتعدى الوهم؛ يعيش الوهم حيث مواقع الأثر، هلوسات الليل لا نهاية لها، خجلتُ من نفسي ...لم أختلف كثيرًا عن الجند... بما رأيتُ داخل الكهف...
انتشلني عقلي من أوهام الكهف إلى أوهام عظمتي، أبرِّر خدمتي للبيك، ادعيت أنه عمي، وأنه سرٌ لا يجوز البوح به، ...لا يبدو عليهم تصديقي، ولم يمانعوا بمجاراتي، ما دمت قادرًا على إعداد المزيد من الشطائر.
تناغمني نفسي منكسرة:
- أيراك أحدٌ مبجَّلاً في هذا العالم الحقير سوى ذلك الطاهي الطيب الذي اعتاد خدمة الباشاوات!
- لعله أراد إكمال نقصه بك! لعله سمَّاك عزيزًا ليعز بك وضاعته!
- لعله رآك باشا تعزيةً لخدمته الباشاوات!
لم أنس أبدا أول مرة اصطحبني معه إلى حلب كان وقتها طاهي للوالي، رافقته إلى المطبخ، وبعدما أنهى إعداد الطعام، طلب من خادم تقديمه لضيوف الوالي، كان الخادم أشقر الشعر، أزرق العينين، تطوق معصمه إسورةٌ من فضة، منقوشٌ عليها (الله حافظ الله حافظ احمِ أمي وأبي) كانت الكلمات منقوشة باللغة العربية، ولم يكن الخادم عربيا ولا تركيا. خرجنا بعدها إلى سوق حلب القديم، وكان مزدحما بالعرب، ومر بالقرب منا ثلاثة منهم، وارتطم والدي بأحدهم عن غير قصد، وما كان من العربي إلا أن لطم أبي لطمةً تركت أثرًا على خده، ثم حمل عليه الثلاثة بقسوة، فارتعب قلبه خوفًا عليَّ، والتقط يدي، وأفلتنا من أيديهم بشِقِّ الأنفس، وهربنا إلى قائد حرس الوالي، فأرسل معنا عشرة جند للبحث عنهم، فلم يستطع أبي تمييزهم من بين مئات العرب؛ فقد تفرقوا، واختلطوا بالحشد، وهنا أمسكت بيد أبي وأشرت إليهم الواحد تلو الآخر، وعلى إثر ذلك تم اعتقالهم، ولا علم لي ما حدث بعدها معهم.
حينها اكتشف والدي أني أتمتع بذاكرة وذكاء خارق للعادة، وأخذ يطلق عليَّ لقب "عزيز باشا"، واحتاج لسنوات طويلة ليدرك أنه بالغ كثيرا، وأن ابنه لا يزيد عن كونه ولدا بليدا أخرقا، كان عمري وقتها ثلاث سنوات، ومن يصدق أن طفلا بهذا العمر يتذكر ثلاثة وجوهٍ في زحمة مئات الوجوه التي اكتظ بها السوق! وكيف استطاع قراءة كلمات بالعربية ولم يكن من الناطقين بها بعد! وقتها لم أفهم ما نُقش على السوار، ولم أر فيها سوى مجرد رسوم لا معنى لها، ولكن بعد خمسة عشر عامًا، حينما أرسلني البيك لتعلم العربية، استخرجتها من ذاكرتي وأدركت مدلولها، لم أنس ذلك النقش العربي مع انقضاء تلك السنون الطويلة، وذاكرتي هي لعنة حياتي.
انتصف الليل، خلدت إلى النوم، حرصت أن أصحو قبل البيك، صحوت وأعددت القهوة والبسكويت، قارورة ماء، ملابس وجوارب نظيفة، حذاء آخر للبيك، أيقظتْه أشعةُ الشمس، فتح عينيه وابتسم لي، طمأنتني ابتسامته بترك عتابي.
شرب قهوته، استبدل ملابسه، هَمَّ بالانصراف وحده، لم أفهم لِمَ لمْ يصحبني! لسنوات ممتدة...كانت عيناي آلته التصويرية، كانت ذاكرتي مفكرته،... لم يدوِّن ملاحظته، سوى الأرقام الفردية؛ لأن ذاكرتي تعجز عن حفظها. سألته أن يصحبني...تنهَّد قائلاً:
- لم أكن في حاجةٍ لك بقدر احتياجي لك الآن، ولكني أخشى عليك؛ هذا المكان سيصيبك بالجنون، ولا أحب أن أكون السبب، ابتعد ولا تقترب.
كنت لَحوحًا في طلبي، ذكَّرتُه بفوائد ذاكرتي، زمَّ شفتيه وأطرق رأسه قائلاً:
- لهذا أخشى عليك؛ ذاكرتي تشفق عليَّ، تسمح لي بشطب ما أريد، أمَّا ذاكرتك الملعونة، تحتفظ بكل شيء، وليت ما ستراه مجرد أرقام فردية، لتتمكن من نسيانها.
انطلق مسرعًا، ثم التفت قائلاً:
- هذا المكان سيسكن ذاكرتك ويسرق عقلك، إنه يتكلم يا عزيز، لا تقترب منه.
حذَّرته من هلوسة الروائح، فهزَّ رأسه وقطب حاجبيه:
- ابتعد يا عزيز...فقط ابتعد.
اعتاد البيك أن يردد عباراتٍ تفصح عن فراسته: "التمثال يتكلم" "اللوحة تغني" "هذا الدرع أخبرني بعدد السيوف التي تحطمت فوقه".
ذات مرة...أمسك بخنجر؛ مقبضه مرصَّع بالجواهر، نصله من الذهب الخالص، ثم قال:
- هذا الخنجر لم يتذوق طعم الدماء.
فسألته كيف عرف ذلك.
- ابتسم وقال: لقد أخبرني الخنجر بذلك، لقد همس لي قائلاً: "كنتُ ملكًا لرجل ثري، خشي عليَّ من ظِفره، لم يصنع لي غمدًا حتى لا يضيق عليَّ، لم يقبض عليَّ بقسوة قط، حرص على لفِّي في حرير ناعم".
هيَّا يا عزيز، أرخِ أذنيك كما اعتدت أن تفعل خلف بابي، أصغِ ودعه يهمس في أذنيك، ثم أخبرني بما أخبرك.
حملتُ الخنجر وتفحصته جيدًا، أخبرت البيك عن العلامات الدالةِ على تاريخ الخنجر؛ فامتدح ذكائي قائلاً:
- أحسنت الإصغاء والتعلم، لا تنسَ أن كل شيء في الكون يتكلم بطريقته.
هكذا كان البيك يصف الأشياء، ولكن حديثه أرهقني هذه المرة، لقد أوعز إليَّ بصدق ما توهمتُه داخل الكهف، ثم انصرف وتركني أتساءل: هل أصابته لوثة! هل نالت منه تلك الرائحة! أم أن الحيوان حيان قد أثَّر فيه إلى هذا الحد!
علمني البيك أن الخرافات لا تسكن إلا بعقول الجهلة، كان يردد دوما: "ابذر خرافة تحصد جهلا". لقد انحدرتُ من أسرة تخاف الحسد، وتؤمن بخوارق الجن، لكن البيك خلق مني مرآةً لشخصيته، لم يفشل إلا في تحويلي عن حب الباشاوات، على الرغم من بغضه الشديد لهم.
يمر يومي بطيئا، كان عليَّ أن أعثر على شيء للتسرية، ، يستقطب انتباهي جنديان من أصل سوري، قد انزويا بجانب الخيمة يتهامسان، يشير أحدهما برأسه تجاهي...أنسلُّ داخل الخيمة...أرخي آذاني لأسمع أحدهم يقول لصاحبه:
- (واللي خلقك بالمغارة في طنان دهب وراح يحملوهن على إسطنبول.)
الثاني:
- (الله لا يباركلن وبجاه النبي عفاريت تعفرتن.)
رفيقه:
- انتبه، هذا الخدام عزيز ابن حرام هذا (اروسبو اغلو.)
تركتهم وسخفَهم، أفتِّش عن ذي ثقةٍ، يكتم سري، يساعدني، ويأخذ نصيبًا مما سأخرجه من الكهف، أقترب من حَلَقَة جند، يلعبون لُعبة غبية، يسمونها "السيجة"؛ حفروا في التُّرْب عدَّة حفرٍ، صفُّوا داخلها مجموعتين مختلفتين من الحصى، لتمثيل جيشين في معركة، وكانت الغلبة لجنود العرب دومًا، راقبتهم ساعةً بل أكثر، تعلمتُ اللُّعبة، لم يسمحوا لي باللعب، تفرغتُ لـ "ذب الذباب"، والإيقاع بين الأتراك والعرب، تسببت في شجار أبهجني.
وماذا أفعل غير ذلك؛ لم يُسمح لي بدخول الكهف، لم يعيرني الجند اهتمامًا، بعدما سقط طربوشي، بعدما تحولتُ لخادم، انقضى النهار، ويوشك الليل، ولم أعثر على بُغيتي، متى أقتحم الكهف؟! أريد الكثير من الذهب، والأحجار الكريمة.
خلدتُ إلى النوم، ثم صحوت، استيقظ البيك قبلي، ولم أعد له القهوة، لقد أسرع إلى الكهف، مرَّت ساعة، عَلِم الملازم أن البيك سبقه إلى الكهف، سألته أن يحمل إليه قهوته، والقليل من البسكويت، لم أخفِ غضبي عن الملازم، لقد حرمني مرافقة البيك.
هذا الحقير لا يستحق أن يكون تركيّا، ليته كان عربيّا! تبًّا له ولفعله! احتلْتُ في سؤالي عنه، لعلِّي أجد عيبا أستغله، لقد كان الجند عربا وتُركا يبجلونه ويحبونه، وقد أحزنني هذا كثيرًا.
اتفق هؤلاء الملاعين على إغاظتي بقَصَصَهم عن شهامة الملازم؛ رجولته، نبله، لم يبقَ إلا أن ينظموا الشعر في هذا الحقير، كنت أتصنع الابتسامة، كم تمنيت أن أجد من يشاركني بغضه!
حاولتُ عبثًا الاقتراب من الكهف، اقترب مني كلب حيان؛ رشيد؛ لم يبلغ العشرين من عمره بعد، أسمرُ اللون، ضئيلُ الجسد، قصيرُ القامة، رفيعُ الأنف، بنيُّ العينين، هزيل الشارب، ينبتُ الشَّعر في وجهه كفتىً في الثالثة عشرة، يُلاحظ عليه هوسه بالملازم؛ يقلده في كل شيء؛ الكلام، هزّ الأكتاف، المِشية، قصة الشعر، البحَّة التي تعترض صوته بين الحين والآخر.
يزداد اقترابه...أتابعه بناظري... هذا الحقير يشبهني كثيرا ولكنَّ، يميزني عنه بشرتُه القاتمة، وأنني تركي، ولستُ عربيًّا مثله.
فاجئني قوله:
- عزيز أفندي... تعال معي وسأريك مدخلا آخر للكهف.
فضولي دفعني لأتبعه بلا تفكير، وأشار إلى البئر قائلاً:
- انزل، وهناك ستجد مدخلا آخر للكهف.
لقد كان البئر ضحلاً. نظرتُ داخله فلم أستبين شيئًا؛ فسألته:
- كيف تعرف أن هناك مدخلا.
فأجاب:
- لقد ولجت منه إلى الكهف بصحبة سعيد، ولكن أرجوك لا تخبر أحدا.
وقف سعيد ليؤكد قول رشيد، يقسم الأيمان على صدقه، هوسي بالكهف أعمى بصيرتي، لم أفطن إلى كيدهم، ألقياني في غَيابَة الجُب، عبر حبلٍ مُمْتَد، لم تلامس قدماي قاع البئر بعد، انصرفا وتركاني بصحبة الحبل، أيقنت خداعي، بلعت غبائي، التزمت الصمت.
لن يُجديني نفعًا صراخي أو توسلي، جلست هادئًا، أطلقت العنان لخيالي، ليأخذني بعيدا، لحين انتهاء عقوبتي، أو لحين خروج البيك لإنقاذي.
لم يكن هذا خداعي الأول؛ ارتحلت ذاكرتي إلى زمن صبيتي، حيث احتجزني أولاد الحي؛ داخل برميل ضيق، حتى أنقذني أبي، ربما حينها تسرب الشك إلى نفسه، باستحالة إصلاح خللٍ أصابني، وعزا ذلك إلى حسد أو سحر يسكن جسدي، المسكين كان معجبا بذاكرتي وذكائي، لم يفوت مناسبةٍ باشوية إلا واستعرضني قائلاً:
- إنه عزيز ابني، يملك ذاكرة خارقة، بإمكانه تذكر أي شيء.
منذ ذلك الحين، ينتابني شعور باهت؛ فأتمتم بلسانٍ ثقيل:
- بين الحلقاتِ من الناسِ... وجموعٍ بيـن الحراسِ
ووجوهٍ هاجت لسماعي...
كررتُ مئاتِ الكلماتِ ... أسترجعُ عدَّةَ صفحاتٍ
فتراقصَ شاربُ مسكينٍ... يتنـاسى كونَه طباخًا
في ظلِّ قصورِ الباشواتِ...


يرغب في دفعِ الأيـامِ... حتى تتحققَ أحـلامُه
أحلامِ أبي! تحطَّمت على صخرةِ غبائي الشديد؛ ولده العبقري صاحب الذاكرة الخارقة، متهمٌ بالغباء من الجميع، ينصحه المعلمون بعدم إهدار الوقت، وتعليمه مهنةً يقتاتُ منها، قبل فوات الأوان.
أبقتني علاقات أبي بالمدرسة، وبالرغم من انعدام مؤشرات الأمل، أرغمني على الزحف عاما وراء عام، لعلها الأيام تعالج ما أصابني من خلل! واأسفاه على ذلك المسكين! فقد لام نفسه كثيرًا على استعراضي في أعين الحاسدين.
وقبل انتهاء المرحلة الإعدادية، استسلم أبي وخضع، ليبحث عن بديل يرضي حُلمه الضائع، وشاءت الأقدار أن يلتقي بـ"روهان بيك" في بيت أحد الباشوات، ليفضي إليه بما يؤرقه.
تدور عجلة الزمن، وها أنا أُحتجز في بئر ضحل، من قِبَل مجموعةٍ من الأغبياء الخاسرين.
يظلني ظِلٌّ أسود، رافقه صوت يتدلى، من عنق البئر المكرورة:
- عزيز باشا...هل وجدت إلى الكهف مدخلا؟
تعلو قهقهةُ الجند، يدورُ صداها مع حائطٍ صلود، يقعقعُ صليلُها في أذنيّ، بريقُ الصوت يقتلني.
رشيد ينادي ثانية:
- عزيز بيك هل تريد الخروج؟
خالط صوتَه قلقٌ أحمق، القهقهة تُدوِّي، أتخطف أنفاسي، تغرقهم حيرة كذباتي، هبط رشيد مرتعبا، يسألني أن أصعد معه.
أخبرته:
- لا أستطيع؛ لقد كُسرت ساقي.
أحاطتهم رغبةٌ عجفاءٌ في إخراجي؛ جلبوا سَرج حصان، جذبني رشيد فوقه، ليسحبني بعضٌ منهم، ويساعد في حملي معهم، أتعبتهم طويلاً، حتى انتشلوني من البئر.
حملوني إلى الخيمة، وأعدوا الشاي على عجل، ولمَّا لم يعجبني طعامهم، جمعوا ما يمكنهم من بارات وقروش، وأرسلوا أحدهم ليشتري طعامًا شهيّا، مخالفين أوامر الملازم في مغادرة الموقع، تذللوا أمامي حتى أكتم عن الملازم فعلتهم، تلذذت بتذللهم وما كنت لأكتفي، راوغتهم ؛ أخبرتهم أن ما يؤلمني ربما يكون التواء، وبعض التدليك قد يساعد على الشفاء، فخلعوا حذائي وجواربي، ليتناوبوا على تدليك قدمي، أصرخ من ألم كاذب، وقلبي يتراقص فرحا، ولم تُشفَ نفسي حتى الآن؛ ادَّعيت إساءة التدليك، هدفي إجبار رشيد وسعيد على الانحناء أمام قدمي.
انكبَّ سعيد يلهث ويدلك...تبعه رشيد في إذلال، وانحنى لتدليك قدمي الباشوية.
أصرخُ في صمتٍ بسَّامٍ: "كم يليق بكم أيها الأوغاد الانحناء لقدمي الباشوية! هيَّا قبلوها وتفاخروا بأنكم قبلتم قدم عزيز.
غابت الشمس، وغاب معها جُرح كرامتي، وأسرع مشير نحو الخيمة ليحذرهم عودة الملازم، فانفضوا من حولي مهرولين إلى مواقعهم، وانتفضت للقاء البيك. أنستني لهفتي أن أعرج قليلا أمامهم...يبدو أنهم اكتشفوا خداعي.
جلس البيك على صخرة بجانب الخيمة، وتبعه حيان ليتهامسا، تسللت وأرخيت أذني، لأسمع أي شيء يروي ظمأي، وسمعت ما دار بينهم.
البيك:
- لا تخف...إن فعلناه كما يجب لن يفطن إلينا أحد.
حيان:
- ولكن...إن اكتشفوا الأمر يوما ما...
البيك مُقاطعًا:
- إنهم حمقى؛ لن يكتشفوا شيئا، تدبر أمر الصناديق، ودعنا نوهم الجميع بأننا سننقل كل محتويات الكهف إلى المتحف.
حيان:
- أخشى أن تعاندنا الصدفة، ويقوموا بتفتيش الصناديق.
البيك بنبرة حازمة:
- لا تخف يا ولد، كن على ثقةٍ بتدبيري، كن واثقًا بأنك إن فوَّت الفرصة سيأكلك الندم طوال حياتك.
حيان:
- أنا رجل عسكري، وإنْ فُضح الأمر سأتهم بالخيانة.
لحظات صمت...يعترضها البيك:
- إذًا...رافقني، وحين وصولنا إسطنبول سأتدبر أمرك.
حيان بنبرة قلقة:
- أخاف أن يبلغ أحد الجند عما حدث.
البيك:
- لا تخف سنستقل القطار.. و.سنسبق الأحداث.
حيان:
- أمهلني أفكر حتى الصباح، سأعود الآن إلى المعسكر لأمر هام.
البيك:
- هذا قرار تتخذه مرة واحدة في حياتك.
يتوقف الحديث، يعم الصمت، وما زالت أذني تترقب، شعرت بظل أحدهم فوق رأسي، كانت خطوات البيك أسرع من استرداد أذني، رمقني بنظرة حادة، وهز رأسه قائلاً:
!!سيقتلك فضولك يوما ما يا عزيز. كم نهيتك عن ترك التلصص! اذهب وآتني بالماء لاغتسل.

يتبع


 
التعديل الأخير تم بواسطة الحوراني ; 17-02-2018 الساعة 06:38 PM

رد مع اقتباس
قديم 20-03-2018, 04:17 PM   #6
الحوراني
الرئيس
الرئيس


الصورة الرمزية الحوراني
الحوراني متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  05 2001
 أخر زيارة : يوم أمس (11:07 PM)
 المشاركات : 25,709 [ + ]
 التقييم :  396
 الدولهـ
Jordan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Blue


الحلقة الخامسه
يتوقف الحديث، يعم الصمت، وما زالت أذني تترقب، شعرت بظل أحدهم فوق رأسي، كانت خطوات البيك أسرع من استرداد أذني، رمقني بنظرة حادة، وهز رأسه قائلاً:
- سيقتلك فضولك يوما ما يا عزيز. كم نهيتك عن ترك التلصص! اذهب وآتني بالماء لاغتسل.
أفرُّ لأنجو من نظراته ومن حديثه الممل الذي أنفت منه أذني، لقد أمسك بي أكثر من ستين مرة، وأفلتُّ ألف مرة، ماذا أفعل! لا أستطيع أن أكف عن التلصص.
أحضرت الماء، وتجرد من جميع ملابسه فوق صخرة خارج الخيمة، وترك جسده المترهل يعاقب عيون الفضوليين، وأمرني بصب الماء فوق رأسه...يوشك القمر أن يصير بدرًا، وقد سلط ضوءه علينا، تمنيت لو أنه ستر عورته.
أخجلتني عيون الجند المراقبة الشامتة...ليته يبلع لسانه حتى لا يجذب المزيد من الفضوليين! ولكن هيهات للبيك بعد أن شعر بالانتعاش أن يوفر سخفه وحماقته.
البيك:
- لا تنظر إلى مؤخرتي يا عزيز.
القهقهة تدوي...يزدحم الضجيج...أذوب خجلا.
يهز البيك مؤخرته الساخرة، ويؤدي رقصة رجل الغاب، سائلاً بأعلى صوته:
- هل تروقك مؤخرتي يا عزيز؟ .. القهقهة تدوي مجددا
تيبَّس لساني، تركته إلى الخيمة، تبعني وارتمى على فِرشته، وطلب مني رش القليل من الماء للتخفيف من وطأة الحر.
غطَّ في نومه، كنت أعتقد أن مزاجه المنتعش سيشفي غليلي، ولكنه لم يرحم عذابي بكلمة أو بحرف واحد؛ تركني أتقلب في نار الفضول، فعزمت على دخول الكهف، ولو كان الثمن قتل أحد الجند، وما كنت لأجرؤ على قتل دجاجة...تأهبت للخروج ولاحقني صوته قبل مغادرتي:
- عزيز...لا تنقاد لما في رأسك، لقد أمر الملازم جنوده بإطلاق النار عليك إن اقتربت من الكهف.
لابد أن الجنود سيسرهم قتلي...كنت أعلم أنه يخدعني، ولم أمتلك الجرأة لاختبار صحة قوله، فضَّلت البقاء بالقرب من "البيك" على الاقتراب من الأوباش.
تُرى ما المؤامرة التي رتب لها مع الملازم؟ وما حاجتهم لصناديق خشبية؟ ولماذا لم يكن حيان مرتاحا؟ وما السرقة التي يخشى أن يُتهم بها؟ أيعقل أن هناك نية لسرقة ما في الكهف! سيذوب القمر على نار شمس الصباح وسأكشف ما أعجز عن تفسيره.
تنسج الشمس خيوطها الذهبية، ولم يتعجل روهان الذهاب إلى الكهف، تناول الإفطار، وشرب القهوة، واحتسى ربع زجاجة عَرَق؛ لقد عاد إلى طبيعته؛ فمنذ مجيئنا لم يقترب زجاجة الشراب.
أطلَّ حيان من بعيد برفقة كلبه العربي رشيد، وما إن رآه روهان حتى فتل شاربه لتظهر شفتاه مزينة بالابتسامة...قفزت الفرحة من عينيه، وكدتُ أسمع دقات قلبه الراقصة.
اقترب حيان وهز رأسه بصمت، يتبعه بعض الجند يحملون على أكتافهم قماشا وشوالات من الخيش، وصناديقا خشبية؛ ظاهرها يدل على الغباء، لا بد أنها جُمعت من القمامة، لم أخطئ كثيرا، فهي صناعة عربية، صُنعت بسواعد جند المعسكر، فخرجت بأقبح صورها؛ خامتها بعض كومات القمامة، وما تبقى من صناديق الخضر والذخيرة، كان حجمها كبيرًا؛ فاستحال عليهم إدخالها الكهف، فأمرهم الملازم بنصب خيمة فوق المدخل، وترك الصناديق والابتعاد.
دخل الاثنان الخيمة ثم انتقلا إلى الكهف، وبعد مرور ساعات خرج روهان والملازم حيان مغبّريَن، وانزويا يتهامسان من جديد، تسللت خلفهما لأعي ما يدور بينهما.
البيك:
- لقد فعلت الصواب يا حيان، دعنا ننهي ما بدأناه سويًّا.
حيان بصوت يحمل الكثير من التردد:
- ما نجترأ عليه ليس هيّنًا؛ إن كُشف أمرنا سيتهموننا بالسرقة.
البيك:
- لا تخف، لن يكتشفوا شيئا، سنخفي الكهف ونبتعد، وسأتدبر أمرك، لديّ الكثير من العلاقات، لنتحرك توًا وابقَ ملتزما بالخطة.
حيان بنبرة صوت باحثةً عن طريقة للتراجع:
- دعنا نعطيهم شيئا يفرحهم ويلهيهم عن التفكير.
احتد البيك:
- لا...إن أخذوا شيئا ستنفتح شهيتهم وسيندفعون للبحث بهمجية، لا داعي لأن يعرف أحد بالأمر، صدقني أنت تقوم بأصوب عمل في حياتك، دعنا نوهم الجميع بأنه تم نقل كل شيء إلى المتحف واترك عليّ ما تبقى.
حيان:
- وإن قاموا بتفتيش الحمولة، كيف سنقنعهم بما في الصناديق؟
رد عليه البيك:
- لا تخف، بإمكاني إقناعهم بأي أمر أريد.
يتابع البيك ضاحكًا:
- ذات مرة أقنعتهم أن التراب مقدس.
وإذا بعينيّ البيك تبحث عني، وكأنه على بينةٍ من أمري، رماني بنظرة حملتني وألقت بي بعيدا، ولم يكن أمامي سوى أن أراقب من بعيد.
اتجها إلى الكهف؛ الأول راضٍ هادئ، والآخر عابس مرتبك. تركاني في حيرة وبعد ما يقارب الساعة شرع الجنود يحملون الصناديق الخشبية المغطاة بالخيش لتحجب ما بداخلها.
عينا روهان تنضح بالفرحة، ولم يتوقف عن التربيت على كتف حيان، ولسان حاله يقول له "شكرًا" لا تخف، تشجع...لن يكتشف أمرنا أحد"، أمَّا الملازم فكان قلقًا؛ تفضحه تعابير وجه.
يشرف روهان بنفسه على تحميل الصناديق على الجمال، وينبئ الجهد المبذول لحملها بخفة وزنها. يحيرني إصرار البيك على أن يتعاون عدة جنود في حمل الصندوق الواحد، وتعمده أن يتم ذلك بطريقة استعراضية...ربما لإيهام الجميع بإفراغ الكهف...أجاهد رغبة نفسي في الاقتراب من الصناديق.
زمُّوا حمولة الإبل، واعتقدت أنها النهاية، وإذا بروهان يأمر الجميع بالعمل على دفن الكهف، أكثر من ثلاثين جنديا عملوا -كخلية نحل- على طمر بوابة الكهف.
أشعر أنني أدفن حيا...اعتقدت أنه الحرص على الرسومات الجدارية والفسيفساء، وبعد مضي ساعة من العمل الدءوب يقول حيان:
- دعني أفعلها على طريقتي.
يهز البيك رأسه معترضًا:
- لن يحدث.
ما كنت لأصدق أن البيك الذي لا ينحني لالتقاط طربوشه يحمل الحجارة والتراب كشاب في العشرين من عمره! أحرقتنا حرارة الشمس حتى دُفن الكهف، واختفت معالمه، وإذا بالبيك يحثنا على مواصلة العمل...لم يرق لنا ذلك، حيان يعود لقولته:
- دعني أفعلها بطريقتي.
أصاب اليأس روهان، فاستجاب لطلبه:
- افعلها ولكن من أعلى نقطة وبحرص شديد.
أراد حيان استخدام المتفجرات لطمس معالم الكهف، وكان البيك معارضًا، ثم وافق شريطة ألا يتأثر الكهف، أعد حيان ما يلزم للتفجير، وأشار إلينا وابتعدنا جميعا لمسافة آمنة، دوَّى انفجار عظيم هز المنطقة وما جاورها، وعلى أثره تجمهر الكثير من العرب من بعيد للمراقبة.
تخر الصخور على أذقانها من كلِّ مرتفع بالأطنان، ويختفى مع انكبابها كل أثر للمكان...لقد دُفنت أحلامي بالثراء......لقد أُغلق هذا الكهف إلى الأبد.
نجح البيك في إخفاء هذا الأثر، ومسح أي أثر يقود إليه...أراه ما فعل ذلك كعالم أثر، بل كمجرم يخفي أثر جريمته...هذا ما كنت أعتقده حينها.
اطمأنت نفس البيك، فصاح بأعلى صوته:
- أين الدواء يا عزيز؟
أحضرتُ زجاجة عرق، لففتها بقطعة قماش للتمويه، تلقفها مسرعًا...يتلذذ برشفها، والكل يراقب، يرفع يده ويلوح بزجاجته مناديًا بأعلى صوته:
- هل من مريض يحتاج أن يشاركني الدواء؟
الكل يدعو له بالشفاء، لم يبد أنهم اكتشفوا سر الدواء.
خرجنا من المناطق الوعرة قبيل غروب الشمس، وكان برفقتنا ستة جمال محملة بالصناديق، وبغل واحد يحمل أغراضنا، رافقنا الملازم حيان ولم يمتطِ جواده احترامًا للبيك الذي فضل أن يسير راجلا حتى يتجاوز الممرات الوعرة.
لم يمضِ الكثير من الوقت حتى وصلنا إلى نقطة التقائنا بالعربة العسكرية العجيبة لتقلنا إلى محطة القطار، ويبدو أنها لم تصل ولن تصل، ربما قد تعطلت في طريقها. هكذا أخبرنا الملازم. فضَّل البيك مواصلة المسير دون توقف، فتنازل جنديان عن جواديهما، عائديَن مع البقيةِ إلى المعسكر، ولم يبق برفقتنا سوى ثلاثة جند.
مررنا على مقربةٍ من عربٍ بعدد الحصى...لم يسرني التغير الطارئ لمخطط رحلتنا؛ لقد حُرِمتُ زيارةَ القدس والبتراء، إن المؤامرة التي حاكها الملازم والبيك قد عبثت بكل أمل...ينتابني الريب بوجود أمر دنيء متعلق بسرقة كنوز الكهف، وسأكتشفه سريعا.
في طريقنا تجمعا سكنيا...يسأل البيك ساخرًا:
- هل تلك هي مناطق الحكم الذاتي لليهود؟
حيان:
- لا إنها قرية عربية، تجمعاتهم في الجهة المقابلة، هل أنت من المعارضين للوجود اليهودي؟
البيك:
- مُطلقًا، لقد كنت من المؤيدين لإقامة حكم ذاتي يهودي يمارسون خلاله طقوسهم الدينية في سكينة، كما أؤمن بأن مشروعهم الزراعي سيثمر فوائد جمة على الجميع، إنهم قوم مسالمون، ولكن طموح قادتهم يثير الريبة، وأبغض تحايلهم واستخفافهم بعقول الآخرين.
حيان يرد في حَنَق:
- اطمئن لدينا أوامر بحراستهم وعدم التدخل في شؤنهم، وحماية تجمعاتهم الزراعية.
طال الحديث وكان مملا، لم أشغل بالي بالتفكير فيه، فأنا أمقت السياسة...أثناء طريقنا إلى حيفا أصر البيك أن يأخذه حيان إلى البحر؛ ليسبح قليلا، وعارضه حيان بحجة اقتراب الصبح.
إصرار البيك أوصلنا إلى شاطئ البحر، وطلب حيان ألا نطيل البقاء على الشاطئ معللا ذلك بأن دوريات من الدرك لا تنفك عن المرور، وستطرح الكثير من الأسئلة المزعجة، والعلاقة بين الدرك والجيش متوترة قليلاً.
سبح البيك عاريا، وغفوت قليلا، ثم غادرنا الشاطئ، ومع بزوغ الفجر وصلنا إلى محطة القطارات؛ وجدناها مضاءة بمصابيح خافتة، غارقة في هدوءٍ سرعان ما تلاشى فور اقترابنا منها.
قام الملازم بصرف جنوده ولم يبق سوى رشيد، وأخذا جانبا خلف أحد دكاكين المحطة، واستبدلا ملابسهما العسكرية بأخرى مدنية.
أراقب حيان بنظرات شامتة؛ تتلاشى هيبته العسكرية مع زيه المخلوع، أمَّا رشيد فلم أكن أعيره اهتمامًا؛ فليكن بزي عسكري أو مدني؛ لم أشعر يوما بالغيرة من عربي.
أحب التجوال في الأماكن الرحبة...أستكشف المحطة، قادتني قدماي إلى حيث يقف روهان بيك، كان يحاول جاهدا قراءة كلمات منقوشة على جدار مغبَّر أمامه.
بعدما وقفت إلى جواره قال ساخرًا:
- لقد سقط الطربوش يا عزيز.
فأخبرته أن الطربوش ما زال على رأسه، فضحك قائلاً:
قصدتُ طربوش مولانا. ما رأيك أن نسبح إلى بيروت ونريح أنفسنا من ضجيج قطار مولانا؟ أخشى أنه لن يصل قريبا.
وتمتم كثيرا بغير توقف، حينها لم أفهم قصده، ولم أجهد نفسي لأفهم؛ فكل ما كان يشغلني هو اكتشاف ما تُسرِّه الصناديق، انشغل روهان وحيان بالتخطيط لطريقة مثلى لتهريب الصناديق إلى تركيا، وربما سرقتها فيما بعد. حقيقةً ما كنت لأشك يوما بأن روهان قد يكون لصا، ولكن الأسلوب الغامض الذي اتبعه مُذ دخول الكهف حتى هذه اللحظة يثير شكوكي تجاه مؤامرة دنيئة؛ إن نقل آثار إلى المتحف لا يحتاج إلى هذا الغموض والسرية من سلطوي مثله.
استيائي مما حدث لم يكن بدافع الأمانة بقدر ما كان بدافع الغضب والغيرة؛ تجاهلني البيك ولم يطلعني على شيء، حسبتني الأقرب إليه، فكيف احتل رجل آخر مكانتي في أيام قلائل! كيف يكون موضع ثقته! فما كنت لأتوانى عن سرقة قبر الخليفة من أجله لو أراد ذلك.
يكاد يخنقني الفضول لكشف الأسرار التي نحملها، وتكاد الغيرة تحرقني، اقتربت من أحد الصناديق، مددت يدي وأخذت أمزق الخيش الذي يخفيها، رصدتني عينا الثعلب روهان، فنادى عليَّ من حيث يقف:
- انتبه يا عزيز حتى لا يسقط طربوشك ويضيع بين الصناديق.
التفت اليه من وراء كتفي، تقول عيناي في تحدٍ:
- سأعرف ما في الصناديق حتى لو كلفني عمري ثمنا لذلك.
يرسل نظراته الساخة كبرق خاطف...وقفت مشدوهًا...سُرق إصراري... تقودني قدماي بعيدا، لم أحاول تبرير اقترابي، أشعر بأنني عدتُ صغيرًا يجرُّه أبوه إلى متحف كبير، ويتركه سريعًا قبل رؤية البيك... تمتلأ عيناه بالشفقة من حيرتي؛ يقترب مني ويربَّت على كتفي ويهمس في أذني:
- لا شيء بالصناديق يا عزيز...لا شيء سوي حجارة سخيفة، والقليل من التراب؛ لنوهم الجميع بأننا أخذنا كل ما في الكهف؛ حتى لا يعودوا للبحث.
شعرت كأنه بصق في أذني وسخر مني، هل اعتقد أني بهذا الغباء لأصدق أن كل هذا الجهد من أجل لا شيء! الملازم يخلع زيه من أجل لا شيء! لا بد أنه أراد أن ما في الصناديق يفوق قدري ومكانتي، وما أنا إلا خادم عنده، ومهما تعلمت يجب ألا أنسى مكانتي، ربما كان يجب أن أتقبل الواقع، البيك بيك، والباشا باشا، ونحن جميعا خدم في عالمهم البغيض.
ومن أنا فعلا! لست أكثر من شاب صغير والده من عامة الناس، التحق بروهان كخادم يراقب الطربوش، ويمسح الغبار عن المنحوتات، ويعد الطعام والشراب للبيك، لا تهم السنوات التي قضيتها في تعلم كل شيء، لا تهم اللغة العربية التي بذلت كل طاقتي في تعلمها وإتقانها؛ ليسهل عمل البيك في الترجمة والتواصل مع الآخرين؛ كنت أراه صديقا ومعلما ووالدا، ولا أشعر بالحرج من جمع أحذيته كلما قرر السفر، ويبدو أن كل هذه السنون جعلت مني خادما بارعًا، لا يحق للخادم أن يطلع على أسرار سيده، وليس له أن يؤتمن عليها...حيان ملازم أول بالجيش وله مكانته، وهل يجب أن أقارن نفسي به! أنا لا شيء...لا شيء أنا.
تعاظمت كراهيتي، لماذا يذكرونني بحقيقتي دائمًا! ألم يكن من حق ابن الطباخ أن يكون مثلهم! ألن تتوقف الأيام عن إذلالي!! ليت المسكين أبي لم يكن طبّاخا! ليتني لم أولد قط!
لم يفلح القمر في تزيين السماء هذه اللية، فيتنحى في صمت، وتتسلل شمس صفراء في بطء كئيب؛ نور باهت يحاول الانتشار، ثم يقترب خمسةُ جند، تأكل أقدامهم المسافة بيننا، يلوح بريق أعينهم، يرموننا بنظرات مرتابة، تأهبوا وكأنهم في مواجهة أعدائهم.
تفرقوا...يتفقدون المكان في حذر، تشير وضعية بنادقهم إلى أهبتهم لخوض معركة، ارتبك الملازم حيان، وتكور على نفسه وأحنى رأسه كلص صغير يخشى القبض عليه؛ لقد خلع رداءه العسكري، تجرد من سياج حمايته.
يهمس في أذني روهان، فرد عليه:
- لا تخف لقد أخبرتك أن الصدر الأعظم سعيد باشا صديقي وسنجد حلا لكل شيء.
أحنى الملازم رأسه من ثقل الهم الجاثم على عنقه، كم سيسرني أن أراه مفصولا عن جسده! كم كان رشيد مرتعبا! ترتعد فرائصه؛ يجاهد كي يتمكن من قضم أظافره وأكلها.
وأنا أردد سرًّا:
- وسقط الطربوش يا حيان سقط الطربوش.
كم كان يبغض روهان الوزير سعيد حليم باشا! لا علاقة بين روهان والصدر الأعظم كما ادعى...أشك وأتمنى أن أكون مصيبا...استغل روهان الملازم وخدعه، والله وحده أعلم بما أغواه به ليعود بالآثار إلى تركيا، لتجد طريقها إلى المتحف السري الخاص به وبالـ "وزة هانم"، هذا ما بدا لي وقتها.
ما كنت لآبه لو سرق حيان كنوز العالم وآثاره، ولكن لن أسمح له أن يسرق مني البيك وهو كل عالمي؛ لا قيمة لي بدونه، لقد انتشلني هذا الرجل من مستنقعٍ كنت فيه ضفدعا بليدا أبلها، سخر منه معلموه وزملاؤه، وكان محطة لنكاتهم وسخريتهم كُلَّما أرادوا التسرية عن أنفسهم.
قبل ثماني سنوات اصطحبني والدي إلى أحد المتاحف، وكان عمري حينها خمسة عشرة عاما، وقبل أن يتركني في انتظار المجهول، لم يزد عن قوله:
- ستتعلم وتعمل هنا.
جلست على أحد المقاعد وحيدا، وكنت أعتقد أنى سألتقي (الأوسطي) صاحب العمل، وأنه سيسخر مني كما اعتاد الجميع.
مرت ساعات قبل أن يقف أمامي رجل بأواخر الستينيات من عمره؛ يطيق وجهه حمل ثلاثة شوارب؛ الأول كثيف أخفى شفتيه، لونه فضي وقد اصطبغ بصُفرة غَليون التَّبغ، وفوق كل عين شارب كثيف، أبيض اللون، ناعم الملمس، تخاصمت خُصَلُه فتباعدت، لم يرتدِ طربوشا، ليس ممن يهتمون بالأناقة، اعتقدت أنه الخادم العجوز للمتحف، رمقني بنظره وقال:
- عزيز يا بليد تحرك بسرعة وابحث عن طربوشي وأحضره.
تصنمت على المقعد، أربكتني رهبة البهو الواسع، وهالني شارب الخادم ذي المظهر الغريب، فسكن الخوف قلبي، وزادني بلادة على بلادتي، فصرخ بأعلى صوته:
- هيا تحرك يا ولد.
قفزت خوفًا، تتعثر خطواتي، أركض بلا هدف، تتلقفني غرفةٌ بعد غرفة، أبحث عن طربوش العجوز، أسعفني الحظ، بين ركام أحد المكاتب، فلمحت طربوشا، إلتقطته، وعدت به على عجل...يقهقه بأعلى صوته قائلاً:
- اجلس يا عزيز والتقط أنفاسك، وابعد عينيك عن شاربي العظيم، وأخبرني عن رأيك فيه؟
انعقد لساني ولم أنبس بحرف، فعاودني تكرار سؤاله:
- مارأيك بشاربي يا عزيز؟
تفور الكلمات بداخلي، ولكنها تُحشر في حلقي وتتأبى على النطق.
أتساءل في وجوم:
- هل جاء بي والدي إلى هنا لأمتدح شارب الخادم.
أخاله يبتسم، والشارب يحجب يقيني بتبسمه.
يقول بانفراجة يسيرة:
- حينما أسألك عن شاربي، أجب "شاربك عظيم يا بيك" هيا قل ذلك وأفرح قلبي العجوز.
قلتُ مُرتعبًا:
- شاربك عظيم يا بيك.
تابع في سخرية:
- وطربوشي؟ أليس عظيما أيضا؟
أصر على أن أردد خلفه "شاربك عظيم، طربوشك عظيم"، ثم سألني:
- أين وجدت الطربوش؟ وماذا كان بجواره؟ وخلفه وأمامه وعن يمينه ويساره؟ ما لون المكتب؟ وما عدد اللوحات التي تزين الجدار؟ وما عدد المقاعد والأقلام؟ ومنفضة السجائر كم عُقْبًا فيها؟ والدك أخبرني أن ذاكرتك خارقة ولا تنسى شيئا.
أسئلته متعددة، لا تحصوها النظرة الأولى لولد صغير لم يعر اهتمامه سوي بالبحث عن طربوش في مكان يجهله، ولكنها أسهل من سؤاله عن شاربه، تلعثمت كثيرا، ثم بهرته إجابتي؛ ولم أخطئ إلا بالأعداد.
ابتسم قائلاً:
- عزيز...من اليوم أنت مسؤول عن طربوشي وشاربي، ومهمتك أن تراقبهما حتى لا يضيعا مني، الويل لك إن حدث ذلك.
هذا الذي انحنى ظهره من ثقل رأسه وشاربه، هذا الذي اعتقدته خادم المتحف كان روهان بيك، ولن أتردد في قتل أي شخص يحاول أن يسرق مكانتي عنده.
يعلو نهيق الحُمُر، ينبئ بانتصاب أذنيها وصدْق لقمان الحكيم...لم تكف الحُمُر عن التواصل؛ نهيقٌ بنهيق...قافلةٌ تطالع من بعيد، يطوقها عدد كبير من الجند، ويبدو أن الخمسة الذين وصلوا مسبقا ليسوا سوى طليعة هذه القافلة، التي ضمت عشرة جمال لا تشبه جمالنا الهزيلة الجرباء؛ كانت سمينة ونظيفة، تفوح منها رائحة الرفاهية والدلال، ولا ينقصها إلا ربطة عنق وحذاء إيطالي لتفوز بلقب "جمل باشا".
أما الحمولة التي حملتها فقد سترها سجاد أحمر فاخر لحجبها وجلب العيون عنها، يحرسها أكثر من خمسين خيالا مدججًا بالسلاح، وبجوارها الكثير من البغال والحمير، وعدد كبير من الحمالين والخدم والعبيد.
وصلت القافلة، ولم يلق علينا التحية أحد، ولكن دوابهم تواضعت، أو تجاوزت حدود التهذيب واختلطت بدوابنا الجرباء، فانزعج الساسة وحاولوا الفصل بين جمالنا الهزيلة الجرباء التي سكنها القُراد، وحمولتها الخشبية، وبين جمالهم المدلـلة وحمولتها الغامضة الملفوفة بالسجاد الأحمر.


 

رد مع اقتباس
قديم 20-03-2018, 04:19 PM   #7
الحوراني
الرئيس
الرئيس


الصورة الرمزية الحوراني
الحوراني متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 2
 تاريخ التسجيل :  05 2001
 أخر زيارة : يوم أمس (11:07 PM)
 المشاركات : 25,709 [ + ]
 التقييم :  396
 الدولهـ
Jordan
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Blue


يتبع .... الحلقة السادسه
قريبا


 

رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
جرة،ذهب،العثماني،التركي،باحث عن الذهب،اسياخ نحاسيه،صندوق ذهب،ذهب عثماني،ذهب تركي،الدولة العثمانيه


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:56 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا