المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 18-10-2011, 07:37 PM   #586
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 22

(انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا "22" )
لأنه سبحانه أعطاك في الدنيا، وأمدك بالأسباب، وبمقومات حياتك، أوجدك من عدم، وأمدك من عدم، حتى وإن كنت كافراً، ثم أعد لك في الآخرة الدرجات العالية والنعيم المقيم الذي لا يفنى ولا يزول.
وهذه هي الحيثيات التي ينبغي عليك بعدها أن تعرفه سبحانه، وتتوجه إليه، وتلتحم به وتكون في معيته، ولا تجعل معه سبحانه إلهاً آخر؛ لأنك إن فعلت فلن تجد من هذا النعيم شيئاً، لن تجد إلا المذمة والخذلان في الدنيا والآخرة.
وسوف تفاجأ في القيامة بربك الذي دعاك للإيمان به فكفرت.

{ووجد الله عنده .. "39" }
(سورة النور)


ساعتها ستندم حين لا ينفعك الندم، بعد أن ضاعت الفرصة من يديك. ويقول تعالى:

{فتقعد مذموماً مخذولاً "22" }
(سورة الإسراء)


والقعود ليس أمراً عادياً هنا، بل هو أنكى ما يصير إليه الإنسان؛ لأن الإنسان لا يقعد إلا إذا أصبح غير قادر على القيام، ففيها ما يشعر بإنهاك القوة، وكأنه سقط إلى الأرض، بعد أن أصبحت رجلاه غير قادرتين على حمله، ولم تعد به قوة للحركة.
ونلاحظ في تعبير القرآن عن هذا الذي خارت قواه، وانتهت تماماً، أنه يختار له وضع القعود خاصة، ولم يقل مثلاً: تنام، لأن العذاب لا يكون مع النوم، ففي النوم يفقد الإنسان الوعي فلا يشعر بالعذاب، بل قال (فتقعد) هكذا شاخص يقاسي العذاب؛ لأن العذاب ليس للجوارح والمادة، بل للنفس الواعية التي تحس وتألم.
ولذلك يلجأ الأطباء إلى تخدير المريض قبل إجراء العمليات الجراحية؛ لأن التخدير يفقده الوعي فلا يشعر بالألم. ومن ذلك قوله تعالى:

{وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيماً "95" }
(سورة النساء)


وقال:

{والقواعد من النساء اللاتي لا يرجون نكاحاً .. "60" }
(سورة النور)


فالقعود يدل على عدم القدرة، وفي الوقت نفسه لا يرتاح بالنوم، فهو في عذاب مستمر. وفي مجال الذم قال الشاعر:
دع المكــارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
وقوله:

{مذموماً "22" }
(سورة الإسراء)


لأنه أتى بعمل يذمه الناس عليه.

{مخذولاً "22" }
(سورة الإسراء)


من الخذلان، وهو عدم النصرة، فالأبعد في موقف لا ينصره فيه أحد، ولا يدافع عنه أحد، لذلك يقول تعالى لهؤلاء:

{ما لكم لا تناصرون "25" بل هم اليوم مستسلمون "26" }
(سورة الصافات)


 

قديم 18-10-2011, 07:52 PM   #587
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 23

(لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا "23" )
بعد أن وجهنا الله تعالى إلى القضية العقدية الكبرى:

{لا تجعل مع الله إلهاً آخر .. "22" }
(سورة الإسراء)


أراد سبحانه أن يبين لنا أن العقيدة والإيمان لا يكتملان إلا بالعمل، فلا يكفي أن تعرف الله وتتوجه إليه، بل لابد أن تنظر فيما فرضه عليك، وفيما كلفك به؛ لذلك كثيراً ما نجد في آيات الكتاب الكريم الجمع بين الإيمان والعمل الصالح، كما في قوله تعالى:

{والعصر "1" إن الإنسان لفي خسر "2" إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر "3" }
(سورة العصر)


لأن فائدة الإيمان وثمرته العمل الصالح، ومادمت ستسلك هذا الطريق فانتظر مواجهة أهل الباطل والفساد والضلال، فإنهم لن يدعوك ولن يسالموك، ولابد أن تسلح نفسك بالحق والقوة والصبر، لتستطيع مواجهة هؤلاء.
ودليل آخر على أن الدين ليس الإيمان القولي فقط، أن كفار مكة لم يشهدوا أن لا إله إلا الله، فلو كانت المسألة مسألة الإيمان بإله واحد وتنتهي القضية لكانوا قالوا وشهدوا بها، إنما هم يعرفون تماماً أن للإيمان مطلوباً، ووراءه مسئولية عملية، وأن من مقتضى الإيمان بالله أن تعمل بمراده وتأخذ بمنهجه.
ومن هنا رفضوا الإيمان بإله واحد، ورفضوا الانقياد لرسوله صلى الله عليه وسلم الذي جاء ليبلغهم مراد الله تعالى، وينقل إليهم منهجه، فمنهج الله لا ينزل إلا على رسول يحمله ويبلغه للناس، كما قال تعالى:

{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم "51"}
(سورة الشورى)


وهاهي أول الأحكام في منهج الله:

{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه .. "23"}
(سورة الإسراء)


وقد آثر الحق سبحانه الخطاب بـ(ربك) على لفظ (الله)؛ لأن الرب هو الذي خلقك ورباك، ووالى عليك بنعمه، فهذا اللفظ أدعى للسمع والطاعة، حيث يجب أن يخجل الإنسان من عصيان المنعم عليه وصاحب الفضل.

{وقضى ربك .. "23" }
(سورة الإسراء)


الخطاب هنا موجه إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الذي بلغ المرتبة العليا في التربية والأدب، وهي تربية حقة؛ لأن الله تعالى هو الذي رباه، وأدبه احسن تأديب. وفي الحديث الشريف: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
قضى: معناها: حكم؛ لأن القاضي هو الذي يحكم، ومعناها أيضاً: أمر، وهي هنا جامعة للمعنيين، فقد أمر الله ألا تعبدوا إلا إياه أمراً مؤكداً، كأنه قضاء وحكم لازم. وقد تأتي قضى بمعنى: خلق. كما في قوله تعالى:

{فقضاهن سبع سنواتٍ .. "12" }
(سورة فصلت)


وتأتي بمعنى: بلغ مراده من الشيء، كما في قوله تعالى:

{فلما قضى زيد منها وطراً زوجناكها .. "37" }
(سورة الأحزاب)


وقد تدل على انتهاء المدة كما في:

{فلما قضى موسى الأجل .. "29" }
(سورة القصص)


 

قديم 18-10-2011, 07:52 PM   #588
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 24

(واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا "24" )
(واخفض): الخفض ضد الرفع.
(جناح الذل): الطائر معروف أنه يرفع جناحه ويرفرف به، إن أراد أن يطير، ويخفضه إن أراد أن يحنو على صغاره، ويحتضنهم ويغذيهم.
وهذه صورة محسة لنا، يدعونا الحق سبحانه وتعالى أن نقتدي بها، وأن نعامل الوالدين هذه المعاملة، فنحنو عليهم، ونخفض لهم الجناح، كناية عن الطاعة والحنان والتواضع لهما، وإياك أن تكون كالطائر الذي يرفع جناحيه ليطير بهما متعالياً على غيره.
وكثيراً ما يعطينا الشرع الحكيم أمثلة ونماذج للرأفة والرحمة في الطيور، ويجعلها قدوة لنا بني البشر. والذي يرى الطائر يحتضن صغاره تحت جناحه، ويزقهم الغذاء يرى عجباً، فالصغار لا يقدرون على مضغ الطعام وتكسيره، وليس لديهم اللعاب الذي يناولانهم غذاءهم جاهزاً يسهل بلعه، وإن تيسر لك رؤية هذا المنظر فسوف ترى الطائر وفراخه يتراصون فرحة وسعادة.
إذن: قوله تعالى:

{جناح الذل .. "24" }
(سورة الإسراء)


كناية عن الخضوع والتواضع، والذل قد يأتي بمعنى القهر والغلبة، وقد يأتي بمعنى العطف والرحمة، يقول تعالى:

{يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين .. "54"}
(سورة المائدة)


فلو كان الذلة هنا بمعنى القهر لقال: أذلة للمؤمنين، ولكن المعنى: عطوفين على المؤمنين. وفي المقابل

{أعزة على الكافرين .. "54" }
(سورة المائدة)


أي: أقوياء عليهم قاهرين لهم. وفي آية أخرى يقول تعالى:

{محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم .. "29" }
(سورة الفتح)


لأن الخالق سبحانه لم يخلق الإنسان رحيماً على الإطلاق ولا شديداً على الإطلاق، بل خلق في المؤمن مرونة تمكنه أن يتكيف تبعاً للمواقف التي يمر بها، فإن كان على الكافر كان عزيزاً، وإن كان على المؤمن كان ذليلاً متواضعاً.
ونرى وضوح هذه القضية في سيرة الصديق أبي بكر والفاروق عمر رضي الله عنهما، وقد عرف عن الصديق اللين ورقة القلب والرحمة، وعرف عن عمر الشدة في الحق والشجاعة والقوة، فكان عمر كثيراً ما يقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تصادم بأحد المعاندين: "إئذن لي يا رسول الله أضرب عنقه".
وعندما حدثت حروب الردة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كان لكل منهما موقف مغاير لطبيعته، فكان من رأي عمر ألا يحاربهم في هذه الفترة الحرجة من عمر الدعوة، في حين رأى الصديق محاربتهم والأخذ على أيديهم بشدة حتى يعودوا إلى ساحة الإسلام، ويذعنوا لأمر الله تعالى فقال: "والله، لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله لجالدتهم عليه بالسيف، والله لو لم يبق إلا الزرع".


 

قديم 18-10-2011, 07:53 PM   #589
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 25

(ربكم أعلم بما في نفوسكم إن تكونوا صالحين فإنه كان للأوابين غفورا "25" )
وقد سبق أن تكلمنا عن الإيمان والنفاق، وقلنا: إن المؤمن منطقي مع نفسه؛ لأنه آمن بقلبه ولسانه، وأن الكافر كذلك منطقي لأنه كفر بقلبه ولسانه، أما المنافق فغير منطقي مع نفسه؛ لأنه آمن بلسانه وجحد بقلبه.
وهذه الآية تدعونا إلى الحديث عن النفاق؛ لأنه ظاهرة من الظواهر المصاحبة للإيمان بالله، وكما نعلم فإن النفاق لم يظهر في مكة التي صادمت الإسلام وعاندته، وضيقت عليه، بل ظهر في المدينة التي احتضنت الدين، وانساحت به في شتى بقاع الأرض، وقد يتساءل البعض: كيف ذلك؟
نقول: النفاق ظاهرة صحية إلى جانب الإيمان؛ لأنه لا ينافق إلا القوي، والإسلام في مكة كان ضعيفاً، فكان الكفار يجابهونه ولا ينافقونه، فلما تحول إلى المدينة اشتد عوده، وقويت شوكته وبدأ ضعاف النفوس ينافقون المؤمنين. لذلك يقول أحدهم: كيف وقد ذم الله أهل المدينة، وقال عنهم:

{ومن أهل المدينة مردوا على النفاق .. "101"}
(سورة التوبة)


نقول: لقد مدح القرآن أهل المدينة بما لا مزيد عليه، فقال تعالى في حقهم:

{والذين تبوؤا الدار والإيمان .. "9" }
(سورة الحشر)


وكأنه جعل الإيمان محلاً للنازلين فيه.

{يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة .. "9"}
(سورة الحشر)


فإن قال بعد ذلك:

{ومن أهل المدينة مردوا على النفاق .. "101"}
(سورة التوبة)


فالنفاق في المدينة ظاهرة صحية للإيمان؛ لأن الإيمان لو لم يكن قوياً في المدينة لما نافقه المنافقون.
ومن هنا جعل الله المنافقين في الدرك الأسفل من النار، لأنه مندس بين المؤمنين كواحد منهم، يعايشهم ويعرف أسرارهم، ولا يستطيعون الاحتياط له، فهو عدو من الداخل يصعب تمييزه. على خلاف الكافر، فعداوته واضحة ظاهرة معلنة، فيمكن الاحتياط له وأخذ الحذر منه. ولكن لماذا الحديث عن النفاق ونحن بصدد الحديث عن عبادة الله وحده وبر الوالدين؟
الحق سبحانه وتعالى أراد أن يعطينا إشارة دقيقة إلى أن النفاق كما يكون في الإيمان بالله، يكون كذلك في بر الوالدين، فنرى من الأبناء من يبر أبويه نفاقاً وسمعة ورياءً، لا إخلاصاً لهما، أو اعترافاً بفضلهما، أو حرصاً عليهما. ولهؤلاء يقول تعالى:

{ربكم أعلم بما في نفوسكم .. "25" }
(سورة الإسراء)


لأن من الأبناء من يبر أبويه، وهو يدعو الله في نفسه أن يريحه منهما، فجاء الخطاب بصيغة الجمع: (ربكم) أي: رب الابن، ورب الأبوين؛ لأن مصلحتكم عندي سواء، وكما ندافع عن الأب ندافع أيضاً عن الابن، حتى لا يقع فيما لا تحمد عقباه. وقوله:

{إن تكونوا صالحين .. "25" }
(سورة الإسراء)


أي: إن توفر فيكم شرط الصلاح، فسوف يجازيكم عليه الجزاء الأوفى. وإن كان غير ذلك وكنتم في أنفسكم غير صالحين غير مخلصين، فارجعوا من قريب، ولا تستمروا في عدم الصلاح، بل عودوا إلى الله وتوبوا إليه.

{فإنه كان للأوابين غفوراً "25"}
(سورة الإسراء)


والأوابون هم الذين اعترفوا بذنوبهم ورجعوا تائبين إلى ربهم.
وقد سبق أن أوضحنا أن مشروعية التوبة من الله للمذنبين رحمة من الخالق بالخلق؛ لأن العبد إذا ارتكب سيئة في غفلة من دينه أو ضميره، ولم تشرع لها توبة لوجدنا هذه السيئة الواحدة تطارده، ويشقى بها طوال حياته، بل وتدعوه إلى سيئة أخرى، وهكذا يشقى به المجتمع. لذلك شرع الخالق سبحانه التوبة ليحفظ سلامة المجتمع وأمنه، وليثري جوانب الحياة فيه.


 

قديم 18-10-2011, 07:53 PM   #590
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 26

(وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا "26" )
الحق سبحانه بعد أن حنن الإنسان على والديه صعد المسألة فحننه على قرابة أبيه وقرابة أمه، فقال:

{وآت ذا القربى حقه .. "26"}
(سورة الإسراء)


(حقه) لأن الله تعالى جعله حقاً للأقارب إن كانوا في حاجة، وإلا فلو كانا غير محتاجين، فالعطاء بينهما هدية متبادلة، فكل قريب يهادي أقرباءه ويهادونه. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يشيع في المجتمع روح التكافل الاجتماعي.
لذلك كان بعض فقهاء الأندلس إذا منع الرجل زكاة تقرب من النصاب أمر بقطع يده، كأنه سرقه؛ لأن الله تعالى أسماه (حقاً) فمن منع صاحب الحق من حقه، فكأنه سرقه منه. وقد سلك فقهاء الأندلس هذا المسلك، لأنهم في بلاد ترف وغنى، فتشددوا في هذه المسألة؛ لأنه لا عذر لأحد فيها.
لذلك، لما جاء أحد خلفائهم إلى المنذر بن سعيد، وقال: لقد حلفت يميناً، وأرى أن أكفر عنه فأفتاه بأن يصوم ثلاثة أيام، فقال أحدهم: لقد ضيقت واسعاً فقد شرع الله للكفارة أيضاً إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فرد عليه المنذر قائلاً: أو مثل أمير المؤمنين يزجر بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم؟ إنه يفعل ذلك في اليوم لألف وأكثر، وإنما يزجره الصوم، وهكذا أخذوا الحكم بالروح لا بالنص؛ ليتناسب مع مقدرة الخليفة، ويؤثر في ردعه وزجره.
وكلمة (حق) وردت في القرآن على معنيين:
الأول: في قوله تعالى:

{والذين في أموالهم حق معلوم "24" }
(سورة الإسراء)


والحق المعلوم هو الزكاة. أما الحق الآخر فحق غير معلوم وغير موصوف، وهو التطوع والإحسان، حيث تتطوع لله بجنس ما فرضه عليك، كما قال تعالى:

{إنهم كانوا قبل ذلك محسنين "16" كانوا قليلا من الليل ما يهجعون "17" وبالأسحار هم يستغفرون "18" وفي أموالهم حق للسائل والمحروم "19"}
(سورة الذاريات)


ولم يقل: "معلوم": لأنه إحسان وزيادة عما فرضه الله علينا.
ويجب على من يؤتى هذا الحق أن يكون سعيداً به، وأن يعتبره مغنماً لا مغرماً؛ لأن الدنيا كما نعلم أغيار تتحول وتتقلب بأهلها، فالصحيح قد يصير سقيماً، والغني قد يصير فقيراً وهكذا، فإعطاؤك اليوم ضمان لك في المستقبل، وضمان لأولادك من بعدك، والحق الذي تعطيه اليوم هو نفسه الذي قد تحتاجه غداً، إن دارت عليك الدائرة.
إذن: فالحق الذي تدفعه اليوم لأصحابه تأمين لك في المستقبل يجعلك تجابه الحياة بقوة، وتجابه الحياة بغير خور وبغير ضعف، وتعلم أن حقك محفوظ في المجتمع، وكذلك إن تركت أولادك في عوزٍ وحاجة، فالمجتمع متكفل بهم.
وصدق الله تعالى حين قال:

{وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديداً "9"}
(سورة النساء)


ولذلك، فالناس أصحاب الارتقاء والإثراء لورعهم لا يعطون الأقارب من أموال الزكاة، بل يخصون بها الفقراء الأباعد عنهم، ويعطون الأقارب من مالهم الخاص مساعدة وإحساناً. و(المسكين) هو الذي يملك وله مال، لكن لا يكفيه، بدليل قوله الحق سبحانه:

{أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر .. "79" }
(سورة الكهف)


أما الفقير فهو الذي لا يملك شيئاً، وقد يعكس البعض في تعريف المسكين والفقير، وهذا فهم خاطئ. و

{وابن السبيل .. "26"}
(سورة الإسراء)


السبيل هو الطريق، والإنسان عادة ينسب إلى بلده، فنقول: ابن القاهرة، ابن بورسعيد، فإن كان منقطعاً في الطريق وطرأت عليه من الظروف ما أحوجه للعون والمساعدة، وإن كان في الحقيقة صاحب يسار وغني، كأن يضيع ماله فله حق في مال المسلمين بقدر ما يوصله إلى بلده.
وابن السبيل إذا طلب المساعدة لا تسأله عن حقيقة حاله، لأن له حقاً واجباً فلا تجعله في وضع مذلة أو حرج.

{ولا تبذر تبذيراً "26"}
(سورة الإسراء)


كما قال تعالى في آية أخرى:

{وآتوا حقه يوم حصاده ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين "141" }
(سورة الإسراء)


فالتبذير هو الإسراف، مأخوذ من البذر، وهو عملية يقوم بها الفلاح فيأخذ البذور التي يريد زراعتها، وينثرها بيده في أرضه، فإذا كان متقناً لهذه العملية تجده يبذر البذور بنسب متساوية، بحيث يوزع البذور على المساحة المراد زراعتها، وتكون المسافة بين البذور متساوية.وبذلك يفلح الزرع ويعطي المحصول المرجو منه، أما إن بذر البذور بطريقة عشوائية وبدون نظام نجد البذور على مسافات غير متناسبة، فهي كثيرة في مكان، وقليلة في مكان آخر، وهذا ما نسميه تبذيراً، لأنه يضع الحبوب في موضع غير مناسب؛ فهي قليلة في مكان مزدحمة في آخر فيعاق نموها.
لذلك، فالحق سبحانه آثر التعبير عن الإسراف بلفظ (التبذير)؛ لأنه يضيع المال في غير موضعه المناسب، وينفق هكذا كلما اتفق دون نظام، فقد يعطي بسخاء في غير ما يلزم، في حين يمسك في الشيء الضروري.
إذن: التبذير: صرف المال في غير حله، أو في غير حاجة، أو ضرورة.
والنهي عن التبذير هنا قد يراد منه النهي عن التبذير في الإيتاء، يعني حينما تعطي حق الزكاة، فلا تأخذك الأريحية الإيمانية فتعطي أكثر مما يجب عليك، وربما سمعت ثناء الناس وشكرهم فتزيد في عطائك، ثم بعد ذلك وبعد أن تخلو إلى نفسك ربما ندمت على ما فعلت، ولمت نفسك على هذا الإسراف.


 

قديم 18-10-2011, 07:54 PM   #591
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 27

(إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفوراً "27" )
كلمة (أخ) تجمع على إخوة وإخوان. وإخوة: تدل على أخوة النسب، كما في قوله تعالى:

{وجاء إخوة يوسف .. "58" }
(سورة يوسف)


وتدل أيضاً على أخوة الخير والورع والتقوى، كما في قوله تعالى:

{إنما المؤمنون إخوة .. "10" }
(سورة مريم)


ومنها قوله تعالى عن السيدة مريم:

{يا أخت هارون .. "28" }
(سورة مريم)


والمقصود: هارون أخو موسى ـ عليهما السلام ـ وبينهما زمن طويل يقارب أحد عشر جيلاً، ومع ذلك سماهما القرآن إخوة أي أخوة الورع والتقوى.
أما: إخوان: فتدل على أن قوماً اجتمعوا على مبدأ واحد، خيراً كان أو شراً، فتدل على الاجتماع في الخير، كما في قوله تعالى:

{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً .. "103"}
(سورة آل عمران)


وقد تدل على الاجتماع في الشر، كما في قوله تعالى:

{إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين .. "27"}
(سورة الإسراء)


فكأن المبذرين اجتمعوا مع الشياطين في هوية واحدة، وود واحد، وانتظمتهما صفات واحدة من الشر.
إذن: كلمة (إخوة) تدل على أخوة النسب، وقد تتسامى لتدل على أخوة الإيمان التي تنهار أمام قوتها كل الأواصر. ونذكر هنا ما حدث في غزوة بدر بين أخوين من أسرة واحدة هما "مصعب بن عمير" بعد أن آمن وهاجر إلى المدينة وخرج مع جيش المسلمين إلى بدر وأخوه "أبو عزيز" وكان ما يزال كافراً، وخرج مع جيش الكفار من مكة، والتقى الأخوان: المؤمن والكافر.
ومعلوم أن "مصعب بن عمير" كان من أغنى أغنياء مكة، وكان لا يرتدي إلا أفخر الثياب وألينها، ويتعطر بأثمن العطور حتى كانوا يسمونه مدلل مكة، ثم بعد أن آمن تغير حاله وآثر الإيمان بالله على كل هذا الغنى والنعيم، ثم بعثه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعلم الناس أمور دينهم، وفي غزوة أحد رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتدي جلد شاة، فقال: "انظروا ما فعل الإيمان بأخيكم".
فماذا حدث بين الأخوين المؤمن والكافر؟ وأي الصلات كانت أقوى: صلة الإيمان بالله، أم صلة النسب؟
لما دارت المعركة نظر مصعب، فإذا بأخيه وقد أسره أحد المسلمين اسمه "أبو اليسر" فالتفت إليه. وقال: يا أبا اليسر أشدد على أسيرك، فأمه غنية، وسوف تفديه بمال كثير. فنظر إليه "أبو عزيز" وقال: يا مصعب، أهذه وصاتك بأخيك، فقال له مصعب: هذا أخي دونك. فأخوة الدين والإيمان أقوى وأمتن من أخوة النسب، وصدق الله تعالى حين قال:

{إنما المؤمنون إخوة .. "10"}
(سورة الحجرات)


قوله:

{إخوان الشياطين .. "27" }
(سورة الإسراء)


أي: أن الحق تبارك وتعالى جعلهما شريكين في صفة واحدة هي التبذير والإسراف، فإن كان المبذر قد أسرف في الإنفاق ووضع المال في غير حله وفي غير ضرورة. فإن الشيطان أسرف في المعصية، فلم يكتف بأن يكون عاصياً في ذاته، بل عدى المعصية إلى غيره وأغوى بها وزينها؛ لذلك وصفه الحق سبحانه بقوله:

{وكان الشيطان لربه كفوراً "27"}


 

قديم 18-10-2011, 07:54 PM   #592
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 28

(وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل لهم قولا ميسوراً "28" )
ولنا أن نسأل: عمن يكون الإعراض؟ فقد سبق الحديث عن الوالدين والأقارب والمسكين وابن السبيل، والإعراض عن هؤلاء لا يتناسب مع سياق الآية لأنه إعراض عن طاعة الله، بدليل قوله:

{ابتغاء رحمةٍ من ربك ترجوها .. "28" }
(سورة الإسراء)


فالله تعالى في ذهنك، وتبتغي من وراء هذا الإعراض رحمة الله ورزقه وسعته. إذن: الإعراض هنا ليس معصية أو مخالفة. فماذا إذن الغرض من الإعراض هنا؟
نقول: قد يأتيك قريب أو مسكين أو عابر سبيل ويسألك حاجة وأنت لا تملكها في هذا الوقت فتخجل أن تواجهه بالمنع، وتستحي منه، فما يكون منك إلا أن تتوجه إلى ربك عز وجل وتطلب منه ما يسد حاجتك وحاجة سائلك، وأن يجعل لك من هذا الموقف مخرجاً.
فالمعنى: إما تعرضن عنهم خجلاً وحياءً أن تواجههم، وليس عندك ما يسد حاجتهم، وأنت في هذا الحال تلجأ إلى الله أن يرحمك رحمة تسعك وتسعهم.
وقوله تعالى:

{فقل لهم قولاً ميسوراً "28"}
(سورة الإسراء)


كما قال في موضع آخر في مثل هذا الموقف:

{قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى .. "263"}
(سورة البقرة)


فحتى في حال المنع يجب على المسلم أن يلتزم الأدب، ولا يجرح مشاعر السائل، وأن يرده بلين ورفق، وأن يظهر له الحياء والخجل، وألا يتكبر أو يتعالى عليه، وأن يتذكر نعمة الله عليه بأن جعله مسئولاً لا سائلاً.
إذن: فالعبارات والأعمال الصالحة في مثل هذا الموقف لا يكفي فيها أن تقول: ما عندي، فقد يتهمك السائل بالتعالي عليه، أو بعدم الاهتمام به، والاستغناء عنه، وهنا يأتي دور الارتقاءات الإيمانية والأريحية للنفس البشرية التي تسمو بصاحبها إلى أعلى المراتب. وتأمل هذا الارتقاء الإيماني في قوله تعالى عن أصحاب الأعذار في الجهاد:

{ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون "92" }
(سورة التوبة)


هذه حكاية بعض الصحابة الذين أتوا رسول الله ليخرجوا معه إلى الجهاد، ويضعوا أنفسهم تحت أمره وتصرفه، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذر لهم، فليس لديه من الركائب ما يحملهم عليه إلى الجهاد.
فماذا كان من هؤلاء النفر المؤمنين؟ هل انصرفوا ولسان حالهم يقول: لقد فعلنا ما علينا ويفرحون بما انتهوا إليه؟ لا، بل:

{تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون "92" }
(سورة التوبة)


 

قديم 18-10-2011, 07:55 PM   #593
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 29

(ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسوراً "29" )
تحدث الحق سبحانه وتعالى في آية سابقة عن المبذرين، وحذرنا من هذه الصفة، وفي هذه الآية يقيم الحق سبحانه موازنة اقتصادية تحفظ للإنسان سلامة حركته في الحياة.
فقوله تعالى:

{ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك .. "29" }
(سورة الإسراء)


واليد عادة تستخدم في المنح والعطاء، نقول: لفلان يد عندي، وله علي أياد لا تعد، أي: أن نعمه علي كثيرة؛ لأنها عادة تؤدى باليد، فقال: لا تجعل يدك التي بها العطاء (مغلولة) أي: مربوطة إلى عنقك، وحين تقيد اليد إلى العنق لا تستطيع الإنفاق، فهي هنا كناية عن البخل والإمساك. وفي المقابل:

{ولا تبسطها كل البسط .. "29" }
(سورة الإسراء)


فالنهي هنا عن كل البسط، إذن: فيباح بعض البسط، وهو الإنفاق في حدود الحاجة والضرورة. وبسط اليد كناية عن البذل والعطاء، وهكذا يلتقي هذا المعنى بمعنى كل من بذر ومعنى بذر الذي سبق الحديث عنه.
فبذر: أخذ حفنة من الحب، وبسط بها يده مرة واحدة، فأحدثت كومة من النبات الذي يأكل بعضه بعضاً، وهذا هو التبذير المنهي عنه، أما الآخر صاحب الخبرة في عملية البذر فيأخذ حفنة الحب، ويقبض عليها بعض الشيء بالقدر الذي يسمح بتفلت حبات التقاوي واحدة بعد الأخرى، وعلى مسافات متقاربة ومتساوية أي بذر.
وهذا هو حد الاعتدال المرغوب فيه من الشرع الحكيم، وهو الوسط، وكلا طرفيه مذموم. وقد أتى هذا المعنى أيضاً في قول الحق سبحانه وتعالى:

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما "67"}
(سورة الفرقان)


أي: اعتدال وتوسط.
إذن: لا تبسط يدك كل البسط فتنفق كل ما لديك، ولكن بعض البسط الذي يبقى لك سيئاً تدخره، وتتمكن من خلاله أن ترتقي بحياتك.
وقد سبق أن أوضحنا الحكمة من هذا الاعتدال في الإنفاق، وقلنا: إن الإنفاق المتوازن يثري حركة الحياة، ويسهم في إنمائها ورقيها، على خلاف القبض والإمساك، فإنه يعرقل حركة الحياة، وينتج عنه عطالة وبطالة وركود في الأسواق وكساد يفسد الحياة، ويعرق حركتها.
إذن: لابد من الإنفاق لكي تساهم في سير عجلة الحياة، ولابد أن يكون الإنفاق معتدلاً حتى تبقي على شيء من دخلك، تستطيع أن ترتقي به، وترفع من مستواك المادي في دنيا الناس.
فالمبذر والمسرف تجده في مكانه، لا يتقدم في الحياة خطوة واحدة، كيف وهو لا يبقي على شيء؟ وبهذا التوجيه الإلهي الحكيم نضمن سلامة الحركة في الحياة، ونوفر الارتقاء الاجتماعي والارتقاء الفردي.
ثم تأتي النتيجة الطبيعية للإسراف والتبذير:

{فتقعد ملوماً محسوراً "29" }
(سورة الإسراء)


وسبق أن أوضحنا أن وضع القعود يدل على عدم القدرة على القيام ومواجهة الحياة، وهو وضع يناسب من أسرف حتى لم يعد لديه شيء.
وكلمة (فتقعد) تفيد انتقاص حركة الحياة؛ لأن حركة الحياة تنشأ من القيام عليها والحركة فيها؛ لذلك قال تعالى:

{لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله .. "95"}
(سورة النساء)


(ملوماً) أي: أتى بفعل يلام عليه، ويؤنب من أجله، وأول من يلوم المسرف أولاده وأهله، وكذلك الممسك البخيل، فكلاهما ملوم لتصرفه غير المتزن.(محسوراً) أي: نادماً على ما صرت فيه من العدم والفاقة، أو من قولهم: بعير محسور. أي: لا يستطيع القيام بحمله. وهكذا المسرف لا يستطيع الارتقاء بحياته أو القيام بأعبائها وطموحاتها المستقبل له ولأولاده من بعده.
فإن قبضت كل القبض فأنت ملوم، وإن بسطت كل البسط فتقعد محسوراً عن طموحات الحياة التي لا تقوى عليها.
إذن: فكلا الطرفين مذموم، ويترتب عليه سوء لا تحمد عقباه في حياة الفرد والمجتمع. إذن: فما القصد؟
القصد أن يسير الإنسان قواماً بين الإسراف والتقتير، كما قال تعالى:

{والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما "67"}
(سورة الفرقان)


فالقرآن يضع لنا دستوراً حاسماً وسطاً ينظم الحركة الاقتصادية في حياة المجتمع، فابسط يدك بالإنفاق لكي تساهم في سير عجلة الحياة وتنشيط البيع والشراء، لكن ليس كل البسط، بل تبقي من دخلك على شيء لتحقق طموحاتك في الحياة، وكذلك لا تمسك وتقتر على نفسك وأولادك فيلومونك ويكرهون البقاء معك، وتكون عضواً خاملاً في مجتمعك، لا تتفاعل معه، ولا تسهم في إثراء حركته.
والحق سبحانه وتعالى وهو صاحب الخزائن التي لا تنفذ، وهو القائل:

{ما عندكم ينفد وما عند الله باقٍ .. "96" }
(سورة النحل)



 

قديم 18-10-2011, 07:55 PM   #594
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 30

(إن ربك يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيرا بصيرا "30" )
الله الذين لا تنفد خزائنه يعطي خلقه بقدرٍ، فلا يبسط لهم الرزق كل البسط، ولا يقبضه عنهم كل القبض، بل يبسط على قوم، ويقبض على آخرين لتسير حركة الحياة؛ لأنه سبحانه لو بسط الرزق ووسعه على جميع الناس لاستغنى الناس عن الناس، وحدثت بينهم مقاطعة تفسد عليهم حياتهم.
إنما حركة الحياة تتطلب أن يحتاج صاحب المال إلى عمل، وصاحب العمل إلى مال، فتلتقي حاجات الناس بعضهم لبعض، وبذلك يتكامل الناس، ويشعر كل عضو في المجتمع بأهميته ودوره في الحياة.
وسبق أن ذكرنا أن الحق سبحانه لم يجعل إنساناً مجمعاً للمواهب، بل المواهب موزعة بين الخلق جميعهم، فأنت صاحب موهبة في مجال، وأنا صاحب موهبة في مجال آخر وهكذا، ليظل الناس يحتاج بعضهم لبعض.
فالغني صاحب المال الذي ربما تعالى بماله وتكبر به على الناس يحوجه الله لأقل المهن التي يستنكف أن يصنعها، ولابد له منها لكي يزاول حركة الحياة.
والحق سبحانه لا يريد في حركة الحياة أن يتفضل الناس على الناس، بل لابد أن ترتبط مصالح الناس عند الناس بحاجة بعضهم لبعض.
فإذا كان الحق تبارك وتعالى لا يبسط لعباده كل البسط، ولا يقبض عنهم كل القبض، بل يقبض ويبسط، فوراء ذلك حكمة لله تعالى بالغة؛ لذلك ارتضى هذا الاعتدال منهجاً لعباده ينظم حياتهم، وعلى العبد أن يرضى بما قسم له في الحالتين، وأن يسير في حركة حياته سيراً يناسب ما قدره الله له من الرزق. يقول تعالى:

{ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله .. "7"}
(سورة الطلاق)


أي: من ضيق عليه الرزق فلينفق على قدره، ولا يتطلع إلى ما هو فوق قدرته وإمكاناته، وهذه نظرية اقتصادية تضمن للإنسان الراحة في الدنيا، وتوفر له سلامة العيش.
ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه؛ لأن الذي يتعب الناس في الحياة ويشقيهم أن ترى الفقير الذي ضيق عليه في الرزق يريد أن يعيش عيشة الموسع عليه رزقه، ويتطلع إلى ما فضل الله به غيره عليه.
فلو تصورنا مثلاً زميلين في عمل واحد يتقاضيان نفس الراتب:
الأول: غني وفي سعةٍ من العيش قد يأخذ من أبيه فوق راتبه.
والآخر: فقير ربما يساعد أباه في نفقات الأسرة.
فإذا دخلا محلاً لشراء شيء ما، فعلى الفقير ألا ينظر إلى وضعه الوظيفي، بل إلى وضعه ومستواه المادي، فيشتري بما يتناسب معه، ولا يطمع أن يكون مثل زميله؛ لأن لكل منهما قدرة وإمكانية يجب ألا يخرج عنها.
هذه هي النظرية الاقتصادية الدقيقة، والتصرف الإيماني المتزن؛ لذلك فالذي يحترم قضاء الله ويرضى بما قسمه له ويعيش في نطاقه غير متمرد عليه، يقول له الحق سبحانه: لقد رضيت بقدري فيك فسوف أرفعك إلى قدري عندك، ثم يعطيه ويوسع عليه بعد الضيق.
وهذا مشاهد لنا في الحياة، والأمثلة عليه واضحة، فكم من أناس كانوا في فقر وضيق عيش، فلما رضوا بما قسمه الله ارتقت حياتهم وتبدل حالهم إلى سعة وترف.
فالحق سبحانه يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر؛ لأنه سبحانه يريد أن يضع الإنسان نفسه دائماً في مقام الخلافة في الأرض، ولا ينسى هذه الحقيقة، فيظن أنه أصيل فيها.
والخيبة كل الخيبة أن ينسى الإنسان أنه خليفة لله في الأرض، ويسير في حركة الحياة على أنه أصيل في الكون، فأنت فقط خليفة لمن استخلفك، ممدود ممن أمدك، فإياك أن تغتر، وإياك أن تعيش في مستوى فوق المستوى الذي قدره الله لك.
فإن اعتبرت نفسك أصيلاً ضل الكون كله؛ لأن الله تعالى جعل الدنيا أغياراً وجعلها دولاً، فالذي وسع عليه اليوم قد يضيق عليه غداً، والذي ضيق عليه اليوم قد يوسع عليه غداً وهذه سنة من سنن الله في خلقه ليدك في الإنسان غرور الاستغناء عن الله.
فلو متع الله الإنسان بالغنى دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب ارزقني، ولو متعة بالصحة دائماً لما استمتع الكون بلذة: يا رب اشفني. لذلك يظل الإنسان موصولاً بالمنعم سبحانه محتاجاً إليه داعياً إياه.
وقد قال تعالى:

{كلا إن الإنسان ليطغى "6" أن رآه استغنى "7" }
(سورة العلق)


 

قديم 18-10-2011, 07:56 PM   #595
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 31

(ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا"31" )
وواضح الصلة بين هذه الآية وسابقتها؛ لأن الكلام هنا ما يزال في الرزق، والخالق سبحانه يحذرنا: إياكم أن تدخلوا مسألة الرزق في حسابكم؛ لأنكم لم تخلقوا أنفسكم، ولم تخلقوا أولادكم ولا ذريتكم.
بل الخالق سبحانه هو الذي خلقكم وخلقهم، وهو الذي استدعاكم واستدعاهم إلى الوجود، ومادام هو سبحانه الذي خلق، وهو الذي استدعى إلى الوجود فهو المتكفل برزق الجميع، فإياك أن تتعدى اختصاصك، وتدخل أنفك في هذه المسألة، وخاصة إذا كانت تتعلق بالأولاد. وقوله تعالى:

{ولا تقتلوا أولادكم .. "31" }
(سورة الإسراء)


القتل: إزهاق الحياة، وكذلك الموت. ولكن بينهما فرق يجب ملاحظته:
فالقتل: إزهاق الحياة بنقض البنية؛ لأن الإنسان يتكون من بنية بناها الخالق سبحانه وتعالى، وهي أجهزة الجسم، ثم يعطيها الروح فتنشأ فيها الحياة.
فإذا ضرب إنسان إنساناً آخر على رأسه مثلاً، فقد يتلف مخه فتنتهي حياته، لكن تنتهي بنقض البنية التي بها الحياة، لأن الروح لا تبقى إلا في جسم له مواصفات خاصة، فإذا ما تغيرت هذه الصفات فارقته الروح.
أما الموت: فيبدأ بمفارقة الروح للجسد، ثم تنقض بنيته بعد ذلك. وتتلف أعضاؤه، فالموت يتم في سلامة الأعضاء.
وما أشبه هذه المسألة بلمبة الكهرباء التي لا تضيء، إلا إذا توافرت لها مواصفات خاصة: من مولد أو مصدر للكهرباء، وسلك موصلً ولمبة كهرباء، فإذا كسرت هذه اللمبة يذهب النور، لماذا؟
لأنك نقضت شيئاً أساسياً في عملية الإنارة هذه. وكذلك إذا صوب واحد رصاصة مثلاً في قلب الآخر فإنه يموت وتفارقه الروح؛ لأنك نقضت عنصراً أساسياً من بنية الإنسان، ولا تستمر الروح في جسده بدونها.
لذلك ليس في الشرع عقوبة على الموت ـ ونقصد به هنا الموت الطبيعي الذي يبدأ بخروج الروح من الجسد ـ لكن توجد عقوبة على القتل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ملعون من هدم بنيان الله".
لأن حياة كل منا هي بناء أقامه الخالق تبارك وتعالى، وهو ملك لخالقه لا يجوز حتى لصاحبه أن ينقضه، وإلا فلماذا حرم الإسلام الانتحار، وجعله كفراً بالله؟!
إذن: المنهي عنه في الآية القتل؛ لأنه من عمل البشر، وليس الموت. وقد أوضح القرآن الكريم هذه المسألة في قوله تعالى:

{وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم .. "144" }
(سورة آل عمران)


فالقتل غير الموت، القتل اعتداء على بنية إنسان آخر وهدم لها. وقوله تعالى:

{أولادكم .. "31" }
(سورة الإسراء)


الأولاد تطلق على الذكر والأنثى، ولكن المشهور في استقصاء التاريخ أنهم كانوا يئدون البنات خاصة دون الذكور، وفي القرآن الكريم:

{وإذا الموءودة سئلت "8" بأي ذنب قتلت "9"}
(سورة التكوير)


لأنهم في هذه العصور كانوا يعتبرون الذكور عوناً وعدةً في معترك الحياة، وما يملؤها من هجمات بعضهم على بعض، كما يرون فيهم العزوة والامتداد. في حين يعتبرون البنات مصدراً للعار، خاصة في ظل الفقر والعوز والحاجة، فلربما يستميل البنت ذو غنى إلى شيء من المكروه في عرضها، وبهذا الفهم يؤول المعنى إلى الرزق أيضاً. وقوله:

{خشية إملاقٍ .. "31" }
(سورة الإسراء)


أي: خوفاً من الفقر، والإملاق: مأخوذة من ملق وتملق، وكلها تعود إلى الافتقار؛ لأن الإنسان لا يتملق إنساناً إلا إذا كان فقيراً لما عنده محتاجاً إليه، فيتملقه ليأخذ منه حاجته. وقوله:

{نحن نرزقهم وإياكم .. "31" }
(سورة الإسراء)


وفي هذه الآية ملمح لطيف يجب التنبه إليه وفهمه لنتمكن من الرد على أعداء القرآن الذين يتهمونه بالتناقض. الحق سبحانه وتعالى يقول هنا:

{خشية إملاقٍ .. "31"}
(سورة الإسراء)


أي: خوفاً من الفقر، فالفقر ـ إذن ـ لم يأت بعد، بل هو محتمل الحدوث في مستقبل الأيام، فالرزق موجود وميسور، فالذي يقتل أولاده في هذه الحالة غير مشغول برزقه، بل مشغول برزق أولاده في المستقبل؛ لذلك جاء الترتيب هكذا:

{نحن نرزقهم .. "31" }
(سورة الإسراء)


أولاً: لأن المولود يولد ويولد معه رزقه، فلا تنشغلوا بهذه المسألة؛ لأنها ليست من اختصاصكم. ثم:

{وإياكم .. "31"}
(سورة الإسراء)


 

قديم 18-10-2011, 07:57 PM   #596
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 32

(ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا "32" )
بعد أن تحدث الحق سبحانه عما يحفظ النسل ويستبقي خلافة الله في الأرض، أراد سبحانه أن يحمي هذا النسل من الضياع، ويوفر له الحياة الكريمة. والإنسان منا حينما يرزق بالولد أو البنت يطير به فرحاً، ويؤثره على نفسه، ويخرج اللقمة من فيه ليضعها في فم ولده، ويسعى جاهداً ليوفر له رفاهية العيش، ويؤمن له المستقبل المرضي، وصدق الشاعر حين قال:
إنما أولادنا أكبادناَ تمشي على الأرض
إن هبت الريح على بعضــهم امتنعت عيني عن الغمض
لكن هذا النظام التكافلي الذي جعله الحق سبحانه عماداً تقوم عليه الحياة الأسرية سرعان ما ينهار من أساسه إذا ما دب الشك إلى قلب الأب في نسبة هذا الولد إليه، فتتحول حياته إلى جحيم لا يطاق، وصراع داخلي مرير لا يستطيع مواجهته أو النطق به؛ لأنه طعن في ذاته هو.
لذلك يحذرنا الحق ـ تبارك وتعالى ـ من هذه الجريمة النكراء؛ ليحفظ على الناس أنسابهم، ويطمئن كل أب إلى نسبة أبنائه إليه، فيحنو عليهم ويرعاهم، ويستعذب ألم الحياة ومتاعبها في سبيل راحتهم. فيقول تعالى:

{ولا تقربوا الزنى .. "32" }
(سورة الإسراء)


والمتأمل في آي القرآن الكريم يجد أن الحق سبحانه حينما يكلمنا عن الأوامر يذيل الأمر بقوله تعالى:

{تلك حدود الله فلا تعتدوها .. "229" }
(سورة البقرة)


والحديث هنا عن أحكام الطلاق، فقد وضع له الحق سبحانه حدوداً، وأمرنا أن نقف عندها لا نتعداها، فكأنه سبحانه أوصلنا إلى هذا الحد، والممنوع أن نتعداه. وأما في النواهي، فيذيلها بقوله:

{تلك حدود الله فلا تقربوها .. "187"}
(سورة البقرة)


والنهي هنا عن مباشرة النساء حال الاعتكاف، وكأن الحق سبحانه يريد ألا نصل إلى الحد المنهي عنه، وأن يكون بيننا وبينه مسافة، فقال (فلا تقربوها) لنظل على بعد من النواهي، وهذا احتياط واجب حتى لا نقترب من المحظور فنقع فيه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه".
فالحق سبحانه خالق الإنسان، وهو أعلم به لا يريد له أن يقترب من المحظور؛ لأن له بريقاً وجاذبية كثيراً ما يضعف الإنسان أمامها؛ لذلك نهاه عن مجرد الاقتراب، وفرق بين الفعل وقربان الفعل، فالمحرم المحظور هنا هو الفعل نفسه، فلماذا إذن حرم الله الاقتراب أيضاً، وحذر منه؟
نقول: لأن الله تعالى يريد أن يرحم عواطفك في هذه المسألة بالذات، مسألة الغريزة الجنسية، وهي أقوى غرائز الإنسان، فإن حمت حولها توشك أن تقع فيها، فالابتعاد عنها وعن أسبابها أسلم لك.
وحينما تكلم العلماء عن مظاهر الشعور والعلم قسموها إلى ثلاث مراحل: الإدراك، ثم الوجدان، ثم النزوع.
فلو فرضنا أنك تسير في بستان فرأيت به وردة جميلة، فلحظة أن نظرت إليها هذا يسمى "الإدراك"؛ لأنك أدركت وجودها بحاسة البصر، ولم يمنعك أحد من النظر إليها والتمتع بجمالها.
فإذا ما أعجبتك وراقك منظرها واستقر في نفسك حبها فهذا يسمى "الوجدان" أي: الانفعال الداخلي لما رأيت، فإذا مددت يدك لتقطفها فهذا "نزوع" أي: عمل فعلي.
ففي أي مرحلة من هذه الثلاث يتحكم الشرع؟
الشرع يتحكم في مرحلة النزوع،ولا يمنعك من الإدراك، أو من الوجدان، إلا في هذه المسألة "مسألة الغريزة الجنسية" فلا يمكن فيها فصل النزوع عن الوجدان، ولا الوجدان عن الإدراك، فهي مراحل ملتحمة ومتشابكة، بحيث لا تقوى النفس البشرية على الفصل بينها.
فإذا رأى الرجل امرأة جميلة، فإن هذه الرؤية سرعان ما تولد إعجاباً وميلاً، ثم عشقاً وغريزة عنيفة تدعوه أن تمتد يده، ويتولد النزوع الذي نخافه، وهنا إما أن ينزع ويلبي نداء غريزته، فيقع المحرم، وإما أن يعف ويظل يعاني مرارة الحرمان.
والخالق سبحانه أعلم بطبيعة خلقه، وبما يدور ويختلج داخلهم من أحاسيس ومشاعر؛ لذلك لم يحرم الزنا فحسب، بل حرم كل ما يؤدي إليه بداية من النظر، فقال تعالى:

{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم .. "30" }
(سورة النور)


لأنك لو أدركت لوجدت، ولو وجدت لنزعت، فإن أخذت حظك من النزوع أفسدت أعراض الناس، وإن عففت عشت مكبوتاً تعاني عشقاً لن تناله، وليس لك صبر عنه.
إذن: الأسلم لك وللمجتمع، والأحفظ للأعراض وللحرمات أن تغض بصرك عن محارم الناس فترحم أعراضهم وترحم نفسك.
لكن هذه الحقيقة كثيراً ما تغيب عن الأذهان، فيغش الإنسان نفسه بالاختلاط المحرم، وإذا ما سئل ادعى البراءة وحسن النية وأخذ من صلة الزمالة إلى القرابة أو الجوار ذريعة للمخالطة والمعاشرة وهو لا يدري أنه واهم في هذا كله، وأن خالقه سبحانه أدرى به وأعلم بحاله، وما أمره بغض بصره إلا لما يترتب عليه من مفاسد ومضار، إما تعود على المجتمع، أو على نفسه.
لذلك قال صلى الله عليه وسلم: "النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه". ومن هنا نفهم مراده سبحانه من قوله:

{ولا تقربوا الزنى .. "32" }
(سورة الإسراء)


ولم يقل: لا تزنوا. لأن لهذه الجريمة مقدمات تؤدي إليها فاحذر أن تجعل نفسك على مقربة منها؛ لأن من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ودعك ممن ينادون بالاختلاط والإباحية؛ لأن الباطل مهما علا ومهما كثر أتباعه فلن يكون حقاً في يوم من الأيام.


 

قديم 20-10-2011, 10:43 AM   #597
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 33

(ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا "33" )
قوله تعالى:

{ولا تقتلوا النفس .. "33"}
(سورة الإسراء)


كان القياس أن يقابل الجمع بالجمع، فيقول: لا تقتلوا النفوس التي حرم الله، لكن الحق سبحانه وتعالى يريد أن قتل النفس الواحد مسئولية الجميع، لا أن يسأل القاتل عن النفس التي قتلها، بل المجتمع كله مسئول عن هذه الجريمة.

{التي حرم الله .. "33" }
(سورة الإسراء)


أي: جعلها محرمة لا يجوز التعدي عليها؛ لأنها بنيان الله وخلقته وصناعته، وبنيان الله لا يهدمه أحد غيره. أو نقول:

{النفس التي حرم الله .. "33" }
(سورة الإسراء)


أي: حرم الله قتلها.

{إلا بالحق .. "33"}
(سورة الإسراء)


هذا الاستثناء من الحكم السابق الذي قال: لا تقتلوا النفس التي حرم الله (إلا بالحق) أي: ولكن اقتلوها بالحق، والحق هنا المراد به ثلاثة أشياء:
ـ القصاص من القاتل.
ـ الردة عن الإسلام.
ـ زنا المحصن أو المحصنة.
وهذه أسباب ثلاثة توجب قتل الإنسان، والقتل هنا يكون بالحق أي: بسبب يستوجب القتل. وقد أثار أعداء الإسلام ضجة كبيرة حول هذه الحدود وغيرها، واتهموا الإسلام بالقسوة والوحشية، وحجتهم أن هذه الحدود تتنافى وإنسانية الإنسان وآدميته، وتتعارض مع الحرية الدينية التي يقول بها الإسلام في قوله تعالى:

{لا إكراه في الدين .. "256"}
(سورة البقرة)


ففي القصاص قالوا: لقد خسر المجتمع واحداً بالقتل، فكيف نزيد من خسارته بقتل الآخر؟
نقول: لابد أن نستقبل أحكام الله بفهم واع ونظرة متأملة، فليس الهدف من تشريع الله للقصاص كثرة القتل، إنما الهدف ألا يقع القتل، وألا تحدث هذه الجريمة من البداية.
فحين يخبرك الحق سبحانه أنك إن قتلت فسوف تقتل، فهو يحمي حياتك وحياة الآخرين. وليس لدى الإنسان أغلى من حياته، حتى القاتل لم يقتل إلا لأنه يحب الحياة، وقتل من أجلها من قتل؛ لأنه ربما خدش عزته أو كرامته، وربما لأنه عدو له أقوى منه.
ولاشك أن حياته أغلى من هذا كله، فحين نقول له: إن قتلت ستقتل، فنحن نمنعه أن يقدم على هذه الجريمة، ونلوح له بأقسى ما يمكن من العقوبة. ولذلك قالوا: القتل أنفى للقتل.
وقال تعالى:

{ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب .. "179"}
(سورة البقرة)


وهذا نداء لأصحاب الأفهام والعقول الواعية، ليس القصاص كما يظن البعض، بل فيه الحياة وفيه سلامة المجتمع وحقن الدماء.
ويجب أن يكون عندنا يقظة استقبال لأحكام الله؛ لأن القاتل ما قتل إلا حينما غفل عن الحكم، ويجب أيضاً أن ننظر إلى حكم القصاص نظرة موضوعية، لأنه كما حمى غيري من قتلي له حماني أيضاً من قتل غيري لي، ومادامت المسألة: لك مثل ما عليك، وحظك منها كحظ الناس جميعاً، فلماذا الاعتراض؟
وكذلك في السرقة، حينما يقول لك: لا تسرق، فأنت ترى أن هذا الأمر قد قيد حريتك أنت، لكن الحقيقة أنه أيضاً قيد حرية الآخرين بالنسبة للسرقة منك. والذي يتأمل هذه الحدود يجدها في صالح الفرد؛ لأنها تقيد حريته وهو فرد واحد، وتقيد من أجله حرية المجتمع كله.
وفي الزكاة، حينما يوجب عليك الشارع الحكيم أن تخرج قدراً معلوماً من مالك للفقراء، فلا تقل: هذا مالي جمعته بجهدي وعرقي. ونقول لك: نعم هو مالك، ولكن لا تنس أن الأيام دول وأغيار، والغني اليوم قد يفتقر غداً، فحين تعضك الأيام فسوف تجد من يعطيك، ويكيل لك بنفس الكيل الذي كلت به للناس.
إذن: يجب أن نكون على وعي في استقبال الأحكام عن الله تعالى، وأن ننظر إليها نظرة شمولية، فنرى ما لنا فيها وما علينا، ومادامت هذه الأحكام تعطينا بقدر ما تأخذ منا فهي أحكام عادلة.
وحكم القصاص يجعل الإنسان حريصاً على نفسه، ويمنعه أن يقدم على القتل، فإن غفل عن هذا الحكم وارتكب هذه الجريمة فلابد أن يقتص منه؛ فإن أخذتنا الشهامة وتشدقنا بالإنسانية والكرامة والرحمة الزائفة، وعارضنا إقامة الحدود فليكن معلوماً لدينا أن من يعارض في إعدام قاتل فسوف يتسبب في إعدام الملايين، وسوف يفتح الباب لفوضى الخلافات والمنازعات، فكل من اختلف مع إنسان سارع إلى قتله؛ لأنه لا يوجد رادع يردعه عن القتل.


 

قديم 20-10-2011, 10:43 AM   #598
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 34

(ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا "34" )
وهنا أيضاً يقول الحق سبحانه:

{ولا تقربوا .. "34" }
(سورة الإسراء)


ولم يقل: ولا تأكلوا مال اليتيم ليحذرنا من مجرد الاقتراب، أو التفكير في التعدي عليه؛ لأن اليتم مظهر من مظاهر الضعف لا صح أن تجترئ عليه.
و(اليتيم) هو من مات أبوه وهو لم يبلغ مبلغ الرجال وهو سن الرشد، ومادام قد فقد أباه ولم يعد له حاضن يرعاه، فسوف يضجر ويتألم ساعة أن يرى غيره من الأولاد له أب يحنو عليه، وسوف يحقد على القدر الذي حرمه من أبيه.
فيريد الحق سبحانه وتعالى أولاً أن يستل من قلب اليتيم وفكره هذه المشاعر؛ لذلك يوصي المجتمع به ليشعر أنه وإن فقد أباه فالمؤمنون جميعاً له آباء، وفي حنوهم وعطفهم عوض له عن وفاة والده.
وكذلك حينما يرى الإنسان أن اليتيم مكرم في مجتمع إيماني يكفله ويرعاه، ويعتبره كل فرد فيه ابناً من أبنائه، يطمئن قلبه ولا تفزعه أحداث الحياة في نفسه، ولا يقلق إن قدر له أن ييتم أولاده، فسوف يجدون مثل هذه الرعاية، ومثل هذا الحنان من المجتمع الإيماني.
إذن: إن وجد اليتيم في المجتمع عوضاً عن أبيه عطفاً وحناناً ورعاية يرضى بما قدر له، ولا يتأبى على قدر الله، وكذلك تطمئن النفس البشرية إن قدر عليها اليتم في أولادها. ثم يقول تعالى:

{إلا بالتي هي أحسن .. "34"}
(سورة الإسراء)


أي: لا تنتهز يتم اليتيم، وأنه ما يزال صغيراً ضعيف الجانب فتطمع في ماله، وتأخذه دون وجه حق. وقوله:

{إلا بالتي هي أحسن .. "34" }
(سورة الإسراء)


استثناء من الحكم السابق (ولا تقربوا) يبيح لنا أن نقرب مال اليتيم، ولكن بالتي هي أحسن.
و(أحسن) أفعل تفضيل تدل على الزيادة في الإحسان فكأن لدينا صفتين ممدوحتين: حسنة وأحسن، وكأن المعنى: لا تقربوا مال اليتيم بالطريقة الحسنة فحسب، بل بالطريقة الأحسن. فما الطريقة الحسنة؟ وما الطريقة الأحسن؟
الطريقة الحسنة: أنك حين تقرب مال اليتيم لا تبدده ولا تتعدى عليه. لكن الأحسن: أن تنمي له هذا المال وتثمره وتحفظه له، إلى أن يكون أهلاً للتصرف فيه. لذلك فالحق سبحانه حينما تكلم عن هذه المسألة قال:

{وارزقوهم فيها .. "5" }
(سورة النساء)


ولم يقل: وارزقوهم منها؛ لأن الرزق منها ينقصها، لكن معنى:

{وارزقوهم فيها .. "5"}
(سورة النساء)


أي: من ريعها وربحها، وليس من رأس المال. وإلا لو تصورنا أن أحد الأوصياء على الأيتام عنده مال ليتيم، وأخذ ينفق عليه من هذا المال، ويخرج منه الزكاة وخلافه، فسوف ينتهي هذا المال ويبلغ اليتيم مبلغ الرشد فلا يجد من ماله شيئاً يعتد به.
وكأن الحق ـ تبارك وتعالى ـ يقول: حققوا الحسن أولاً بالمحافظة على مال اليتيم، ثم قدموا الأحسن بتنميته له وزيادته زيادة تتسع لنفقات حياته، وإلا فسوف يشب الصغير، وليس أمامه من ماله شيء.


 

قديم 20-10-2011, 10:44 AM   #599
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 35

(وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا "35" )
تنتقل بنا الآيات إلى قضية من أخطر قضايا المجتمع، هذه القضية هي التي تضمن للإنسان نتيجة عرقه وثمار جهده وتعبه في الحياة، ويطمئن أنها عائدة عليه لا على هذه الطبقة الطفيلية المتسلطة التي تريد أن تعيش على أكتاف الآخرين وتتغذى على دمائهم.
وبذلك ييأس الكسول الخامل، ويعلم أنه ليس له مكان في مجتمع عامل نشيط، وأنه إن تمادى في خموله فلن يجد لقمة العيش فيأخذ من ذلك دافعاً للعمل، وبذلك تزداد طاقة العمل ويرقى المجتمع ويسعد أفراده.
صحيح في المجتمع الإيماني إيثار، لكنه الإيثار الإيجابي النابغ من الفرد ذاته، أما الخطف والسرقة والاختلاس والغصب فلا مجال لها في هذا المجتمع؛ لأنه يريد لحركة الحياة أن تستوعب الجميع فلا يتطفل أحد على أحد.
وإن كنا نحارب الأمراض الطفيلية التي تتغذى على دماء الإنسان فإن محاربة الطفيليات الآدمية أولى بهذه المحاربة. فما دمت قادراً على العمل فيجب أن تعمل، أما غير القادرين من أصحاب الأعذار فهم على العين والرأس، ولهم حق مكفول في الدولة وفي أعناق المؤمنين جميعاً، وهذا هو التأمين الذي يكفله الإسلام لكل محتاج.
لذلك نقول للغني الذي يسهم في سد حاجة الفقير: لا تتأفف ولا تضجر إن أخذنا منك اليوم؛ لأن الطاقة التي عملت بها واجتهدت وجمعت هذا المال طاقة وقدرة ليست ذاتية فيك، بل هي هبة من الله يمكن أن تنزع منك في أي وقت، وتتبدل قوتك ضعفاً وغناك حاجة، فإن حدث لك ذلك فسوف نعطيك ونؤمن لك مستقبلك.
لذلك على الإنسان أن يعيش في الحياة إيجابياً، يعمل ويكدح ويسهم في رقي الحياة وإثرائها، ولا يرضى لنفسه التقاعس والخمول؛ لأن المجتمع الإيماني لا يسوي بين العامل والقاعد، ولا بين النشيط والمتكاسل.
وهب أن شقيقين اقتسما ميراثاً بينهما بالتساوي؛ الأول عاش في ماله باقتصاد وأمانة وسعى فيه بجد وعمل على تنميته، أما الآخر فكان مسرفاً منحرفاً بدد كل ما يملك وقعد متحسراً على ما مضى، فلا يجوز أن نسوي بين هذا وذاك، أو نأخذ من الأول لنعطي للآخر، إياك أن تفعل هذا لأن الإنسان وكذلك الدول ـ إذا أخذت ما ليس لها حملها الله ما ليس عليها.
ولذلك لا يجوز أن نحقد على الغني طالما أن غناه ثمرة عمله وكده ونتيجة سعيه، وطالما أنه يسير في ماله سيراً معتدلاً ويؤدي ما عليه من حقوق للمجتمع، ولندعه يعمل بكل ما يملك من طاقات ومواهب، وبكل ما ليده من طموحات الحياة؛ لأن الفقير سوف يستفيد منه ومن طموحاته شاء أم أبى. فدعه يجتهد، وإن كان اجتهاده في الظاهر لنفسه فإنه في الحقيقة يعود عليك أيضاً، والخير في المجتمع تعود آثاره على الجميع.
لنفرض أن أحد هؤلاء الأغنياء أراد أن يبني مصنعاً أو عمارة أو مشروعاً كبيراً، فكم من العمال والصناع، وكم من الموظفين والمهندسين سيستفيدون من هذا المشروع؟ إن الغني لن يملك مثل هذه الإنجازات إلا بعد أن يصبح ثمنها قوتاً في بطون الفقراء وكسوة على أجساد الفقراء.
إذن: علينا أن ندع الغني يجتهد ويسعى؛ لأن المجتمع سوف يستفيد من سعيه واجتهاده، وما عليك إلا أن تراقبه، فإن كان سعيه في الحق فبها ونعمت، وإن كان في غير الحق فلتضرب على يده. وإليك ما يضمن لك سعادة الحياة وسلامة الحركة فيها، يقول تعالى:

{وأوفوا الكيل إذا كلتم .. "35"}
(سورة الإسراء)


والحديث هنا لا يخص الكيل فقط، بل جميع المقادير المستخدمة في حركة الحياة مثل المقادير الطولية مثلاً، والتي تقدر بالملليمتر أو السنتيمتر أو المتر أو الكيلو متر وتقاس بها الأشياء كل على حسبه، فالكتاب مثلاً يقاس بالسنتيمتر، والحجرة تقاس بالمتر، أما الطريق فيقاس بالكيلومتر وهكذا.
إذن: فالتقدير الطولي يجب أن تتناسب وحدة القياس فيه مع الشيء الذي نقيسه. هذا في الطوليات، أما في المساحات فيأتي الطول والعرض، وفي الأحجام: الطول والعرض والارتفاع. وفي الكتل يأتي الميزان.
إذن: فالحياة محكومة في تقديرات الأشياء بالكيل الذي يبين الأحجام، وبالميزان الذي يبين الكتلة؛ لأن الكيل لا دخل له في الكتلة، إنما الكتلة تعرف بالميزان، بدليل أن كيلو القطن مثلاً اكبر بكثير من كيلو الحديد.
ومعنى ذلك أن ميزان التقدير يجب أن يكون سليماً؛ لذلك يقول تعالى:

{وأوفوا الكيل إذا كلتم .. "35"}
(سورة الإسراء)


 

قديم 20-10-2011, 10:44 AM   #600
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الإسراء - الآية: 36

(ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً "36" )
ينتقل الحق سبحانه وتعالى إلى قضية أخرى تنظم حركة الحياة والإنسان الذي استخلفه الله في الأرض ووهبه الحياة وأمده بالطاقات وبمقومات الحياة وضرورياتها.
وبعد أن تكفل له بالضروريات، دله على الترقي في الحياة بالبحث والفكر، واستخدام العقل المخلوق لله، والمادة المخلوقة لله بالطاقات المخلوقة لله، فيرقي ويثري حياته ومجتمعه.
وحركة الترقي والإثراء هذه لا تتم إلا على قضية ثابتة واضحة، فإذا تحركت في الحياة بناءً على هذه القضية فسوف تصل إلى النتيجة المرجوة.
فمثلاً، الطالب الذي يرغب في دخول كلية الحقوق مثلاً، لديه قضية واضحة مجزوم بها، فعندما يلتحق بالحقوق يجتهد، ويصل من خلالها إلى طموحاته؛ لأنه سار على ضوء قضية اقتنع بها.
إذن: لابد أن تبني حركة الحياة على قضايا ثابتة، هذه القضايا الثابتة تجعل المتحرك في أي حركة واثقاً من أن حركته ستؤدي إلى النتيجة المطلوبة، فلو أردت مثلاً الذهاب إلى الإسكندرية أو إلى أسوان، فلن تتحرك إلا إذا تأكدت أن هذا الطريق هو الموصل إلى غايتك، وكذلك حركة الحياة لا يمكن أن تتم إلا بناءً على قضايا حقيقية مضبوطة في الكون، وهذا ما نسميه (العلم).
وقد سبق أن أوضحنا معنى القضية، وأنها المقولة التي يحكم على قائلها بالصدق أو الكذب، كأن نقول: الأرض كروية، أو الشمس مضيئة، أو القمر منير، وهذه القضايا تعطيني قضية علمية مجزوماً بها وواقعة، ويمكن أن ندلل عليها. وهذا هو العلم.
أما الجهل فأن تجزم بقضية ليست واقعية فهي قضية كاذبة، وليس الجهل عدم العلم كما يعتقد البعض؛ لأن عدم العلم أمية، والأمي ليس عنده قضية لا صادقة ولا كاذبة.
لذلك تجد الأمي أطوع في التعلم من الجاهل؛ لأن الأمي بمجرد أن تعلمه قضية ما يأخذها ويتعلمها، أما الجاهل فيلزمك أولاً أن تخرج من ذهنه القضية المخالفة، ثم تعلمه القضية الصادقة. وقضايا الحياة يمكن أن تقسم إلى قسمين:
قضايا تختلف فيها الأهواء.
وقضايا تتفق فيها الأهواء.
فالقضايا التي تختلف فيها الأهواء: هي القضية التي يخدم بها كل قائل لها فكرة عنده فقط، وإن كانت ضارة بغيره، فمادام الأمر قائماً على الأهواء فلابد أن تختلف، فكل له هواه الخاص، فلو أن لكل واحد قضية ما التقينا على شيء أبداً. وصدق الحق تبارك وتعالى حين قال:

{ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض .. "71"}
(سورة المؤمنون)


إذن: فما المخرج من هذا الاختلاف والتباين؟ المخرج أن يخرج كل واحد منا من هوى نفسه أولاً، ثم نرد القضية التي اختلفت فيها أهواؤنا إلى من لا هوى له.
وربك سبحانه وتعالى هو وحده الذي لا هوى له، ونحن جميعاً خلقه، وكلنا عنده سواء، ليس منا من بينه وبين الله نسب أو قرابة، فشرع الله واحد للجميع، ولا غضاضة فالكل خاضع لهذا الشرع متبع له؛ لأنه شرع الخالق سبحانه لا شرع أحد من الناس.
لذلك اشتهر قولهم: "اللي الشرع يقطع صباعه ميخرش دم". فأنا لم أخضع لك، وأنت لم تخضع لي، بل الجميع خاضع لله تعالى منصاع لأمره. إذن: اتركوا قضايا الأهواء لله تعالى يشرعها لكم لكي ترتاحوا من تسلط بعضكم على بعض.
أما القضايا التي تتفق فيها الأهواء فهي القضايا المادية القائمة على المادة الصماء التي لا تجامل أحداً على حساب أحد، ولا مانع أن تتبعوا الآخرين فيها؛ لأنكم سوف تلتقون عليها قهراً ورغماً عنكم، فالمعمل الذي تدخله لتجري التجارب التي توصلك لقضية ما مادية أو كيماوية معمل محايد لا يجامل أحداً.
وقد سبق أن قلنا: إن الكهرباء أو الكيمياء ليس فيها روسي وأمريكي؛ لأن هذه أشياء مادية لا خلاف عليها، أما الذي جعل المعسكر الشرقي يختلف والمعسكر الغربي هي القضايا الأهوائية، فهذا شيوعي، وهذا رأسمالي.
لذلك، فالنبي صلى الله عليه وسلم وضع بنفسه هذا المبدأ في الوجود الإيماني حينما رأى الناس يؤبرون النخل، فأشار عليهم بعدم تأبيره، فأطاعوه ولم يؤبروا النخل في هذا العام، وكانت النتيجة أن شاص النخل ولم يثمر، وأثبتت التجربة الطبيعية أن ما أشار به رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس صواباً.
يأتي هذا ممن؟ من محمد بن عبد الله نبي الله ورسول، الذي يحرص على أن تأتي كل قضاياه صادقة صائبة، وما كان منه إلا أن قال: "أنتم أعلم بشئون دنياكم". ليضع بذلك أسوة لعلماء الدين ألا يضعوا أنوفهم في قضايا الماديات، وقد قال الحق تبارك وتعالى:

{قد علم كل أناس مشربهم "60"}
(سورة البقرة)


ويقول صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به". فإن أردت أن تتحرك في الحياة حركة سليمة مجدية، وحركة متساندة مع إخوانك غير متناقضة؛ فالحق سبحانه يقول:

{لا تقف ما ليس لك به علم .. "36" }
(سورة الإسراء)


لكي تسير في حركة الحياة على هدىً وبصيرة. (لا تقف) أي: لا تتبع ولا تتدخل فيما لا علم لك به، كمن يدعي مثلاً العلم بإصلاح التليفزيون وهو لا يعلم، فربما أفسد أكثر مما يصلح. ومن هنا قال أهل الفقه: من قال لا أدري فقد أفتى؛ لأنه بإعلان عدم معرفته صرف السائل إلى من يعلم، أما لو أجاب خطأ، فسوف يترتب على إجابته ما لا تحمد عقباه، والذي يسلك هذا المسلك في حياته تكون حركته في الحياة حركة فاشلة.
والفعل (يقفو) مأخوذ من القفا وهو المؤخرة، وقد قال تعالى في آية أخرى:

{ثم قفينا على آثارهم برسلنا .. "27"}
(سورة الحديد)


أي: أتبعناهم. ويقفو أثره أي: يسير خلفه. وحينما نصح أحدهم رجلاً يريد أن يتزوج قال له: لا تتخذها حنانة، ولا منانة، ولا عشبة الدار، ولا كبة القفا.
فالحنانة التي لها ولد من غيرك يذكرها دائماً بأبيه فتحن إليه، والمنانة التي لديها مال تمن به عليك، وعشبة الدار هي المرأة الحسناء في المنبت السوء والمستنقع القذر، وكبة القفا هي التي لا تعيب الإنسان في حضوره، وتعيبه وتذمه في غيبته.


 

موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:14 AM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا