المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة.

 


 
العودة   نفساني > المنتديات الإسلامية > الملتقى الإسلامي
 

الملتقى الإسلامي قال تعالى : (( إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ ۗ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ ۗ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ))

موضوع مغلق
 
أدوات الموضوع
قديم 10-10-2011, 12:48 PM   #286
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 2

(الله لا إله إلا هو الحي القيوم "2")
تلك هي قضية القمة، ولذلك يتكرر في القرآن التأكيد على هذه القضية، "الله لا إله إلا هو". و"الله" كما يقولون مبتدأ، و"لا إله إلا هو" خبر، والمبتدأ لابد أن يكون متضحاً في الذهن، فكأن كلمة "الله" متضحة في الذهن، ولكنه يريد أن يعطي لفظ "الله" الوصف الذي يليق به وهو "لا إله إلا هو". ولذلك يقول الحق:

{ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون "61" }
(سورة العنكبوت)


إذن فالله متضح في أذهانهم، ولكن السلطات الزمنية أرادت أن تطمس هذا الإيضاح، فجاء القرآن ليزيل ويمحو هذا الطمس مؤكدا "الله لا إله إلا هو" فهذه قضية أطلقها الحق شهادة منه لنفسه:

{شهد الله أنه لا إله إلا هو}
(من الآية 18 سورة آل عمران)


وكفى بالله شهيداً؛ لأنها شهادة الذات للذات، وشهدت الملائكة شهادة المشهد فلم يروا أحداً آخر إلا هو، وكذلك، شهد أولو العلم الذين يأخذون من الأدلة في الكون ما يثبت صدق الملائكة ويؤكد صدق الله، فإذا ما نظرنا نظرة أخرى نقول: إن الحق أطلقها على نفسه وقال: "لا إله إلا هو"؛ وجعلها كلمة التوحيد وجعل الأمر في غاية اليسر والسهولة والبساطة؛ فلم يشأ الله أن يجعل دليل الإيمان بالقوة العليا دليلاً معقداً، أو دليلاً فلسفياً، أو لا يستطيع أحد أن يصل إليه إلا أهل الثقافة العالية، لا، إن الدين مطلب للجميع؛ من راعي الشاة إلى الفيلسوف؛ إنه مطلوب للذي يكنس في الشارع كما هو مطلوب من الأستاذ الجامعي.
فيجب أن تكون قضية الإيمان في مستوى هذه العقول جميعاً؛ فلا فلسفة في هذه المسألة، لذلك شاء الحق أن يجعل المسألة في منتهى البساطة فأوضح الله: أنا شهدت ألا إله إلا أنا، فإما أن يكون الأمر صدقاً وبذلك ينتهي المشكلة، وليس من حق أحد الاعتراض، وإن لم تكون صدقاً فقولوا لنا: أين الإله الآخر الذي سمع التحدي، وأخذ الله منه ذلك الكون، وقال: أنا وحدي في الكون، وأنا الذي خلقت، ثم لم نسمع رداً عليه ولا عن معارض له، ألم يدر ذلك الإله الآخر؟
إذن فذلك الآخر لا ينفع أن يكون إلهاً، فإن علم ذلك الآخر ولم يدافع عن نفسه وملكيته للكون فإنه لا يصلح أن يكون إلهاً. وتصبح القضية لله إلى أن يظهر مدع ليناقضها، فـ"لا إله إلا هو" كلمة حق، وبالعقل والمنطق هو إله ولم نجد معارضاً. وقلنا سابقاً: إن الدعوى حين تدعي ولا يوجد معارض حين نسمعها تكون لصاحبها إلى أن يوجد المعارض. وضربنا مثلا: نحن مجتمعون في حجرة، عشرة أشخاص، وبعد ذلك انصرفوا فوجد صاحب البيت حافظة نقود، فجاء واحد متلهفا وقال: لقد ضاعت مني حافظة نقود. فقال له صاحب البيت: وجدنا حافظة ولكن كان هنا عشرة، فلما جئ بالعشرة، وسئلوا لم يدعها أحد، إذن فهي له.
إن الله قد قال: "لا إله إلا هو"، فإن كان هناك إله آخر فليظهر لنا، ولكن لا تظهر لنا إلا قوة الله "لا إله إلا هو" ومادام لا إله إلا هو، وهذا الكون يحتاج إلى قيومية لتدبيره، فلابد أن يكون حيا حياة تناسبه، لأنه سيهب حيوات كثيرة لكل الأجناس، للإنسان وللحيوان وللنبات وللجماد، إذن فالذي يوجدها لابد أن يكون حياً ولابد أن تكون حياته مناسبة له.
و"قيوم" هذه يمسونها صيغة مبالغة؛ لأن الحديث إذا وقع فإنه يقع مرة على صورة عادية، ومرة يقع على صورة قوية. مثلما تقول: فلان أكول، و"أكول" غير "آكل"، فكلنا نأكل، وكلنا يطلق علينا "آكل"، لكن ليس كلنا يطلق علينا "أكول" لأن هذه اسمها صيغة مبالغة في الحديث. وإذا كان الله هو الذي يدبر ويقوم على أمر كل عوالم الكون هل يكون قائما أو قيوماً؟ لابد أن يكون قيوماً. و"قيوم" معناها أيضا: قائم بذاته. فما شكل هذا القيام؟ إنه قيام أزلي كامل.
إذن فكلمة "قيوم" صيغة مبالغة من القيام على الأمر، قائم بنفسه، قائم بذاته، ويقيم بغيره، والغير متعدد متكرر، فعندما يكون هذا الغير متعدداً ومتكرراً فهو يحتاج إلى صفة قوية في خالقه، فيكون الخالق قيوما. إن قوله الحق: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" هو سند المؤمن في كل حركات حياته،

<عن أبي بن كعب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا المنذر أتدري أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قلت: "الله لا إله إلا هو الحي القيوم" فضرب في صدري وقال: "ليهنك العلم أبا المنذر">

وقولوا لنا بالله: حين يوجد ولد وأب، هل يحمل الولد هما لأي مسألة من مسائل الحياة؟ لا؛ لأن الأب متكفل بها، والمثل العامي يقول: الذي له أب لا يحمل هما، إذن فالذي له رب عليه أن يستحي؛ لأنه سبحانه يقول: أنا حي، وأنا قيوم، و"قيوم" يعني قائم بأمرك. ويؤكد سبحانه هذه القيومية في سورة البقرة، فقال في آية الكرسي: "لا تأخذه سنة ولا نوم"، كأنه يقول لنا: ناموا أنتم لأنني لا أنام، وإلا فإن نمت أنت عن حراسة حركة حياتك فمن يحرسها لك؟ إنه سبحانه يتفضل علينا بقيوميته فـ"الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، ومادام هو "الحي" و"القيوم" فأمر منطقي أنه قائم بأمر الخلق جميعا وقد وضع لكل الخلق ما تقوم به حياتهم من مادة وصيانة مادة ومن قيم وصيانة قيم.
ومادام هو القيوم القائم بالأمر والمتولي الشئون للخلق فلابد أن يؤدي لهم مطلوبات مادتهم وما يبقيها، ومطلوبات قيمهم وما يبقيها. أما مطلوبات المادة فيقول فيها:

{وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين "10" }
(سورة فصلت)




 

قديم 10-10-2011, 12:48 PM   #287
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 3

(نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل "3")
إذن فلم يعطنا سبحانه مقومات المادة فقط، ولكن أعطانا مقومات القيم أيضا؛ لأن المادة بدون قيم تكون شرسة هوجاء رعناء، فيريد الله أن يجعل المادة في مستوى إيماني. إذن لابد أن تنزل القيم. لذلك قال سبحانه: "نزل عليك الكتاب بالحق" و"نزل" تفيد شيئا قد وجب عليك؛ لأن النزول معناه: شيء من أعلى ينزل، وهو يقول لك: لا تتأبى على القيم التي جاءت لك من أعلى منك؛ لأنها ليست من مساو لك، إنها من خالق الكون والبشر، والذي يمكنك أن تتأبى عليه ما يأتي مما ه أدنى منك.
لكن حين يجئ لك التقنين ممن هو أعلى منك فلا تتأب عليه؛ لأن خضوعك له ليس ذلة بل عزة، فقال: "نزل عليك الكتاب". وفي سياق القرآن نجده سبحانه يقول:

{نزل به الروح الأمين "193"}
(سورة الشعراء)


ومرة أخرى يقول في القرآن الكريم:

{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا "105"}
(سورة الإسراء)


ولكن هل نزل القرآن وحده؟ لقد كان جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يعني ذلك خروج القرآن عن كونه "نزل"، فجبريل عليه السلام كان ينزل بالقرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والحق سبحانه وتعالى يقول:

{وبالحق أنزلناه وبالحق نزل وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا "105"}
(سورة الإسراء)


وبذلك تتساوى "أنزل" مع "نزل". وحين نأتي للحدث أي الفعل في أي وقت من الأوقات فإننا نتساءل: أهو موقوت بزمن أم غير موقوت بزمن؟ إن القرآن الكريم قد نزل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم في ثلاثة وعشرين عاما وينزل القرآن حسب الحوادث، فكل نجم من نجوم القرآن ينزل حسب متطلبات الأحداث. ولكن الحق سبحانه وتعالى يقول:

{إنا أنزلناه في ليلة القدر "1"}
(سورة القدر)


والحق هنا يحدد زمنا. ولنا أن نعرف أن القرآن الذي نزل في ثلاثة وعشرين عاما هو الذي أنزله الله في ليلة القدر.
إذن فللقرآن نزولان اثنان: الأول: إنزال من "أنزل".
الآخر: تنزيل من "نزل".
إذن فالمقصود من قوله ـ سبحانه ـ: "إنا أنزلناه في ليلة القدر" أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليباشر مهمته في الكون، وهذا ما أنزله الله في ليلة القدر. والكتاب الكريم الذي أنزله الله في ليلة القدر إلى السماء الدنيا ينل منجما على حسب الأحداث التي تتطلب تشريعا أو إيضاحا لأمر. لكن الكتب الأخرى لم يكن لها ذلك اللون من النزول والتنزيل، لقد نزلت مرة واحدة؛ لا حسب الأحداث والمناسبات، لقد جاءت مرة واحدة، كما نزل القرآن أولا من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا. ولننظر إلى السماء الدنيا. ولننظر إلى الأداء القرآني حين يقول:

{نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل "3"}
(سورة آل عمران)


وهنا يجب أن نلتفت إلى أن الحق قال عن القرآن: "نزل" وقال عن التوراة والإنجيل: "أنزل". لقد جاءت همزة التعدية وجمع ـ سبحانه ـ بين التوراة والإنجيل في الإنزال، وهذا يوضح لنا أن التوراة والإنجيل إنما أنزلهما الله مرة واحدة، أما القرآن الكريم فقد نزله الله في ثلاث وعشرين سنة منجما ومناسباً للحوادث التي طرأت على واقع المسلمين، ومتضمنا البلاغ الشامل من يوم الخلق إلى يوم البعث. ونزل الله القرآن منجما مناسباً للأحداث، ليثبت فؤاد رسول الله؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أن يتعرض لأحداث شتى، كلما يأتي حدث يري تثبيتا ينزل نجم من القرآن.

{وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا "32"}
(سورة الفرقان)


كان النجم من القرآن ينزل، ويحفظه المؤمنون، ويعملون بهديه، ثم ينزل نجم آخر، والله سبحانه يقول:

{ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا "33"}
(سورة الفرقان)


فمن رحمته سبحانه وتعالى بالمسلمين أن فتح المجال لأن يسألوا، وأن يستوضحوا الأمور التي تغمض عليهم. وجعل الحق سبحانه لأعمال المؤمنين الاختيارية خلال الثلاثة والعشرين عاما فرصة ليقيموا حياتهم في ضوء منهج القرآن، وصوب لهم القرآن ما كان من خطأ وذلك يدل على أن القرآن قد فرض الجدل والمناقشة، وفرض مجيء الشيء في وقت طلبه؛ لأن الشيء إذا ما جيء به وقت طلبه فإن النفس تقبل عليه وترضى به.
ومثال ذلك في حياتنا اليومية أن الواحد منا قد يملك في منزله صندوقا للأدوية ممتلئا بألوان شتى من الداء، ولكن عندما يصاب صاحب هذا الصندوق بقليل من الصداع فهو يبحث عن قرص أسبرين، قد لا يعرف مكانه في صندوق الدواء فيبعث في شرائه، وذلك أسهل وأوثق.



 

قديم 10-10-2011, 12:50 PM   #288
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 4

(من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام "4")
ويأتي القول الفصل في: ـ "وأنزل الفرقان". هنا الجمع بين "نزل" و"أنزل". وساعة يقول الحق عن القرآن: "مصدقا لما بين يديه" فمعنى ذلك أن القرآن يوضح المتجه؛ إنه مصدق لما قبله ولما سبقه، إنه مصدق للقضايا العقدية الإيمانية التي لا يختلف فيها دين عن دين؛ لأن الديانات إن اختلفت فإنما تختلف في بعض الأحكام، فهناك حكم يناسب زمنا وحكم آخر لا يناسب ذلك الزمن. أما العقائد فهي لا تتغير ولا تتبدل، وكذلك الأخبار وتاريخ الرسل، فليس في تلك الأمور تغيير.
ومعنى "مصدق" أي أن يطابق الخبر الواقع، وهذا ما نسميه "الصدق". وإن لم يطابق الخبر الواقع فإننا نسميه "كذبا". إن، فالواقع هو الذي يحكم. ولذلك قلنا من قبل: إن الصادق هو الذي لا تختلف روايته للأحداث؛ لأنه يستوحي واقعا، وكلما روى الحادثة فإنه يرويها نفسه بكلماتها وتفاصيلها، أما الكاذب فلا يود له واقع يحكي عنه، لذلك ينشئ في كل حديث واقعا جديدان ولذلك يقول الناس: "إن كنت كذوبا فكن ذكورا". أي إن كنت تكذب ـ والعياذ بالله ـ فتذكر ما قلت؛ حتى لا تناقضه بعد ذلك. فالصادق هو من يستقرئ الواقع، ومادام يروي عن صدق فهو يروي عن أمر ثابت لا تلويه الأهواء، فلا يحكي مرة بهوى، ومرة بهوى آخر.
ومادم الخبر صادقاً فإنه يصبح حقاً؛ لأن الحق هو الشيء الثابت الذي لا يتغير وسبحانه يقول هنا: "نزل عليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل، من قبل هدى للناس. وقد تكلمنا من قبل عن التوراة، وقلنا: إن بعضا من العلماء حين يتعرض للفظ من الألفاظ فهو يحاول أن يجعله من اللغة العربية، ويحاول أن يعثر له على وزن من الأوزان العربية، وأن يأتي له بصفة من الصفات العربية، فقال بعضهم من التوراة: إنها "الورى" ـ بسكون الراء ـ وكان الناس قديما يشعلون النار بضرب عود في عود آخر، ويقولون: الزند قد ورى"، أي قد خرجت ناره. وقال بعض العلماء أيضا: إن الإنجيل من "النجل"، وهو الزيادة.
وأقول لهؤلاء العلماء: لقد نظرتم إلى هذه الألفاظ على أنها ألفاظ عربية، لكن التوراة لفظ عبري، والإنجيل لفظ سرياني أو لفظ يوناني، وصارت تلك الكلمات علما على تلك الكتب وجاءت إلى لغتنا. ولا تظنوا أن القرآن مادام قد نزل عربيا فكل ألفاظه عربية، لا. صحيح أن القرآن عربي، وصحيح أيضا أنه قد جاء وهذه الألفاظ دائرة على لسان العرب، وإذا تم النطق بها يفهم معناها.
والمثال على ذلك أننا في العصر الحديث أدخلنا في اللغة كلمة "بنك" وتكلمنا بها، فأصبحت عربية؛ لأنها تدور على اللسان العربي، فمعنى أن القرآن عربي أن الله حينما خاطب العرب خاطبهم بألفاظ يفهمونها، وهي دائرة في ألسنتهم، وإن لم تكن في أصلها عربية. وحينما تكلم الحق عن التوراة والإنجيل وقال: إن القرآن جاء مصدقا لهما قال ـ جل شأنه ـ:

{من قبل هدى للناس وأنزل الفرقان إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام "4" }
(سورة آل عمران)


فأي ناس هؤلاء الذين قال عنهم: "هدى الناس"؟ لاشك أنهم الناس الذين عاصروا الدعوة لتلك الكتب. وإذا كان القرآن قد جاء مصداقا لما في التوراة والإنجيل ألا تكون هذه الكتب هداية لنا أيضا؟ نعم هي هداية لنا، ولكن الهداية إنما تكون بتصديق القرآن لها، حتى لا يكون كل ما جاء فيهما ومنسوبا إليهما حجة علينا. فالذي يصدقه القرآن هو الحجة علينا، فيكون "هدى للناس" معناها: الذين عاصروا هذه الديانات وهذه الكتب ، ونحن مؤمنون بما فيها بتصديق القرآن لها.
وحين يقول الحق سبحانه وتعالى: "وأنزل الفرقان" يدل على أن الكتاب ـ أي القرآن ـ سيعاصر مهمة صعبة؛ فكلمة "الفرقان" لا تأتي إلا في وجود معركة، ونريد أن نفرق بين أمرين: هدى وضلال، حق وباطل، شقاء وسعادة، استقامة وانحراف، إذن فكلمة "الفرقان" تدل على أن القرآن إنما جاء ليباشر مهمة صعبة وهو أنه يفرق بين الخير والشر، ومادام يفرق بين الخير والشر إذن ففيه خير وله معسكر، وفيه شر وله معسكر، إذن ففيه فريقان. ويأتي للفريق الذي يدافع عن الحق نضالاً وجهاداً بما يفرق له ويميز به بين الحق والباطل ويختم الحق هذه الآية بقوله: "إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام".
ولماذا جاء هذا التذييل على هذه الصورة في هذه الآية؟ أي مادام القرآن فرقاناً فلابد أن يفرق بين حق وباطل، والحق له جنوده، وهم المؤمنون، والباطل له جنوده وهم الكافرون، والشر قد جاء من الكافرين فلابد أن يتكلم عن الذين كفروا "إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد". والعذاب إيلام، ويختلف قوة وضعفا باعتبار المؤلم المباشر للعذاب. فصفعة طفل غير صفعة شاب غير صفعة رجل قوي، كل واحد يوجه الصفعة بما يناسب قوته، فإذا كان العذاب صادراً من قوة القوي وهو الله، إذن فلابد أنه عذاب لا يطاق. "لهم عذاب شديد والله عزيز ذو انتقام" أي لا يغلب على أمره، ولا توجد قوة أخرى ضده، وانتقامه لن يستطيع أحد أن يرده.
وقوله الحق سبحانه وتعالى: إنه "قيوم" أي يقوم بشئون خلقه إيجاداً وإمداداً، بناء مادة وإيجاد قيم، لابد أن يتفرع من ذلك أنه يعلم كل الخلق ويعلم الخبايا، ولذلك يضع التقنين المناسب لكل ما يجري لهم، والتقنينات التي تأتي من البشر تختلف عن التقنينات الموجودة من الله، لماذا؟ لأن الله حين يقنن بكتاب ينزله على رسوله ليبلغ حكم الله فيه فهو سبحانه يقنن لما يعلم، وما يعلمه سبحانه قد يعلمه خلقه وقد لا يعلمونه، وقد تأتي الأحداث بما لم يكن في بال المشرع البشري المقنن حين يقنن، ولذلك يضطرون عادة إلى تغيير القانون؛ لأنه قد جدت أحداث لم يلتفت إليها المشرع البشري. ولماذا لم يلتفت إليها المشرع البشري؟ لأن علمه مقصور على المرئيات التي توجد في عصره وغير معاصر للأشياء التي تحدث بعد عصره، وأيضا يقنن لملكات خفية عنه.
إن الحق سبحانه وتعالى لكونه قيوما وينزل ما يفرق بين الحق والباطل، فهو ـ سبحانه ـ يعلم علماً واسعاً، بحيث لا يستدرك عليه، ولذلك فالذين يحاولون أن يقولوا: إن هذا الحكم غير ملائم للعصر، نقول لهم: أتستدركون على الله؟! كأنكم تقولون: إن الله قد فاته مثل هذه الحكاية ونريد أن نصححها له!.


 

قديم 11-10-2011, 05:02 PM   #289
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 5

(إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء "5")
انظروا إلى خدمة الآية لكل الأغراض التي سبقتها، مادام قيوما وقائما بأمور الخلق، فلابد أن يعلم كل شيء عن الخلق، فلا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ومادام سيفرق بين الحق والباطل وينزل بالكفار عذابا شديدا فلا يخفي عليه شيء. إن الآية تخدم كل الأغراض، وهو سبحانه يعلم كل الأغراض، فحين يقنن بقيوميته، فهو يقنن بلا استدراك عليه، وحين يخرج أحد عن منهجه لا يخفي عليه. إذن فالآية حصاد على التشريع وعلى الجزاء "إن الله لا يخفي عليه شيء في الأرض ولا في السماء".


 

قديم 11-10-2011, 05:02 PM   #290
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 6

(هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو العزيز الحكيم "6")
والتصوير في الرحم هو إيجاد المادة التي سيوجد منها الإنسان على هيئة خاصة؛ هذه الهيئة تختلف نوعيتها: ذكورة وأنوثة. والذكورة والأنوثة تختلفان أشكالاً؛ بيضاء وسمراء وقمحية وخمرية وقصيرة وطويلة، هذه الأشكال التي يوجد عليها الخلق والتي منها:

{واختلاف ألسنتكم وألوانكم}
(من الآية 22 سورة الروم)


هذا الاختلاف في الألوان والألسنة والأشياء المتعددة يدل على أنها ليست من إنتاج مصنع يصنع قالباً ثم يشكل عليه، لا؛ فكل إنسان يولد يصنع بيد قديرة بقدرة ذاتية. إن الصانع الآن إذا أرادت أن يصنع لك كوباً يصنع قالباً ويكرره، لكن في الخلق البشري كل واحد بقالبه الخاص، وكل واحد بشكله المخصوص، وكل واحد بصوته الذي ثبت أن له بصمة كبصمة اليد، وكل واحد بلون، إذن فهي من الآيات، وهذا دليل على طلاقة القدرة، وفوق كل هذا هو الخلق الذي لا يحتاج إلى عملية علاج، معنى عملية علاج أي يجعل قالباً واحدا ليصب فيه مادته. لا، هو ـ جل شأنه ـ يقول:

{بديع السماوات والأرض وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون "117" }
(سورة البقرة)


إن الأب والأم قد يتحدان في اللون ولكن الابن قد ينشأ بلون مختلف، ويخلق الله معظم الناس خلقاً سويا، ويخلق قلة من الناس خلقاً غير سوي؛ فقد يولد طفل أعمى أو مصاب بعاهة ما أو بإصبع زائدة أو إصبعين .. وهذا الشذوذ أراده الله في الخلق ليلفتنا الحق إلى حسن وجمال خلقه. لأن من يرى ـ وهو السوي ـ إنساناً آخر معوقاً عن الحركة فإنه يحمد الله على كامل خلقه.
وحين يرى إنسان له في كل يد خمس أصابع إنساناً آخر له إصبع زائدة يعوق حركة يده، يعرف حكمة وجود الأصابع الخمس، فالجمال لا يثبت إلا بوجود القبح، وبضدها تتمايز الأشياء، الإنسان الذي له سبع أصابع في يد واحدة، يضع الطب أمام مهمة يجند نفسه لها؛ حتى يستطيع الطبيب أن يستأصل الزائد عن حاجة الإنسان الطبيعي. ولو خلق الله الإنسان بثلاث أصابع لما استطاع ذلك الإنسان أن يتحكم عند استعماله الأشياء الدقيقة.
إن الإنسان العادي في حركته اليومية لا يدرك جمال استواء خلقه إلا إذا رأى فردا من أفراد الشذوذ. والحق يلفت الناس الساهين عن نعم الله عليهم لرتابتها فيهم بفقدها في غيرهم. فساعة أن يرى مبصر مكفوفا يسير بعكاز، يفطن إلى نعمة البصر التي وهبها له الله فيشعر بنعمة الله عليه. إن الشذوذ في الخلق هو نماذج إيضاحية تلفت الناس إلى نعم الله التي أنعم الله عليهم بها. هذه المثل في الكون تلفت الناس إلى نعم الله فيهم، ولذلك تجدها أمامك، وأيضا كي لا تستدرك على خالقك، ولا تقل ما ذنب هذا الإنسان أن يكون مخلوقا هكذا؟ فهو سبحانه سيعوضه في ناحية أخرى؛ فقد يعطيه عبقرية تفوق إمكانات المبصر.
ونضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ عن الذي ساح في الدنيا "تيمور لنك الأعرج" وهو القائد الذي أذهل الدنيا شجاعة، إن الله قد أعطاه موهبة التخطيط والقتال تعويضاً له عن العرج. ونحن نجد العبقريات تتفجر في الشواذ غالباً، لماذا؟ لأن الله يجعل للعاجز عجزاً معيناً همة تحاول أن تعوض ما افتقده في شيء آخر، فيأتي النبوغ. إذن فـ"هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء" وكل تصوير له حكمته. ومادام كل تصوير له حكمة فكل خلق الله جميل.
عليك ألا تأخذ الخلق مفصولاً عن حكمة خالقه، بل خذ كل خلق مع حكمته. إن الذي يجعلك تقول: هذا قبيح، إنك تفصل المخلوق عن حكمته، ومثال ذلك: التلميذ الذي يرسب قد يحزن والده، ولكن لماذا يأخذ الرسوب بعيداً عن حكمته؟ لقد رسب حتى يتعلم معنى الجدية في الاستذكار، فلو نجح مع لعبه ماذا سيحدث؟ كل أقرانه الذين عرفوا أنه لعب ونجح سيلعبون ويقولون: هذا لعب ونجح .. إذن فلابد أن تأخذ كل عمل ومعه حكمة وجوده.
كذلك لا تأخذ العقوبة منفصلة عن الجريمة، فكل عقوبة علينا أن نأخذها ملتصقة بجريمتها، فساعة ترى واحداً مثلاً سيحكمون عليه بالإعدام تأخذك الرحمة به وتحزن، هنا نقول لك: أنت فصلت إعدامه عن القتل الذي ارتكبه سابقاً، إنما لو استحضرت جريمته لوجدته يقتل عدالة وقصاصاً فقد قتل غيره ظلماً، فلا تبعد هذه عن هذه.
"هو الذي يصوركم في الأرحام كيف يشاء لا إله إلا هو" ومعنى "لا إله إلا هو" أي سيصور وهو عالم أن ما يصوره سيكون على هذه الصورة؛ لأنه لا يوجد إله آخر يقول له: هذه لا تعجبني وسأصور صورة أخرى، لا؛ لأن الذي يفعل ذلك عزيز، أي لا يغلب على أمر، وكل ما يريده يحدث وكل أمر عنده لحكمة، لأنه عندما يقول: "يصوركم في الأرحام" قد يقول أحد من الناس: إن هناك صوراً شاذة وصوراً غير طبيعية. وهو سبحانه يقول لك: أنا حكيم، وأفعلها لحكمة فلا تفصل الحدث عن حكمته، خذ الحدث بحكمته، وإذا أردت الحدث بحكمته تجده الجمال عينه، وهو سبحانه المصور في الرحم كيف يشاء، هذا من ناحية مادته.


 

قديم 11-10-2011, 05:02 PM   #291
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 7

(هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب "7")
إذن فبعدما صورنا في الأرحام كيف يشاء على مقتضى حكمته لن يترك الصور بدون منهج للقيم، بل صنع منهج القيم بأن أنزل القرآن وفيه منهج القيم، ولابد أن نأخذ الشيء بجوار الحكمة منه، وإذا أخذنا الشيء بجوار الحكمة منه يوجد كل أمر مستقيما كله جميل وكله خير. فيقول سبحانه: "هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات". ماذا يعني الحق بقول: "آيات محكمات"؟ إن الشيء المحكم هو الذي لا يتسرب إليه خلل ولا فساد في الفهم؛ لأنه محكم، وهذه الآيات المحكمة هي النصوص التي لا يختلف فيها الناس، فعندما يقول:

{والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما}
(من الآية 38 سورة المائدة)


هذه آية تتضمن حكما واضحا. وهو سبحانه يقول:

{الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما}
(من الآية 2 سورة النور)


هذه أيضا أمور واضحة، هذا هو المحكم من الآيات، فالمحكم هو ما لا تختلف فيه الأفهام؛ لأن النص فيه واضح وصريح لا يحتمل سواه، و"المتشابه" هو الذي نتعب في فهم المراد منه، ومادمنا سنتعب في فهم المراد منه فلماذا أنزله؟
ويوضح لنا سبحانه ـ كما قلت لك ـ خذ الشيء مع حكمته كي تعرف لماذا نزل؟ فالحكم جاء للأحكام المطلوبة من الخلق، أي افعل كذا، ولا تفعل كذا، ومادامت أفعالا مطلوبة من الخلق فالذي فعلها يثاب عليها، والذي لم يفعلها يعاقب، إذن فسيترتب عليها ثواب وعقاب، فيأتي بها صورة واضحة، وإلا لقال واحد: "أنا لم أفهم"، إن الأحكام تقول لك: "افعل كذا ولا تفعل كذا" فهي حين تقول: "افعل"؛ أنت صالح ألا تفعل، فلو كنت مخلوقاً على أنك تفعل فقط؛ لا يقول لك: افعل، لكن لأنك صالح أن تفعل وألا تفعل فهو يقول لك: "افعل".
وساعة يقول لك: "لا تفعل"، فأنت صالح أن تفعل، فلا يقال: "افعل ولا تفعل" إلا لأنه خلق فيك صلاحية أن تفعل أو لا تفعل، ونلحظ أنه حين يقول لي: افعل كذا ولا تفعل كذا يريد أن أقف أمام شهوة نفسي في الفعل والترك، ولذلك يقول الحق في الصلاة:

{وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين }
(من الآية 45 سورة البقرة)


فعندما يقول لي: "افعل ولا تفعل" معناها: أن فيه أشياء تكون ثقيلة أن أفعلها، وأن شيئا ثقيلا علي أن أتركه، فمثلا البصر خلقه الله صالحا لأن يرى كل ما في حيزه. على حسب قانون الضوء، والحق يقول له:

{قل انظروا ما ذا في السماوات والأرض}
(من الآية 101 سورة يونس)


ولكن عند المرأة التي لا يحل لك النظر إليها يقول الحق: اغضض.

{قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون "30" وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن }
(سورة النور)


ومعنى "يغضوا" و"يغضض" أنه سبحانه حدد حركة العين، ومثال آخر؛ اليد تتحرك فيأمرك ـ سبحانه ـ ألا تحركها إلا في مأمور به، فلا تضرب بها أحداً، ولا تشعل بها ناراً تحرق وتفسد بل أشعل بها النار لتطبخ مثلاً. إذن فهو سبحانه يأتي في "افعل ولا تفعل" ويحدد شهوات النفس في الفعل أو الترك، فإن كانت شهوة النفس بأنها تنام، يقول الأمر التعبدي: قم وصل، وإن كانت شهوة النفس بأنها تغضب يقول الأمر الإيماني: لا تغضب.
إذن فالحكم إنما جاء بافعل ولا تفعل لتحديد حركة الإنسان، فقد يريد أن يفعل فعلاً ضاراً؛ فيقول له: لا تفعل، وقد يريد ألا يفعل فعل خير يقول له: افعل. إذن فكل حركات الإنسان محكومة بـ"افعل ولا تفعل"، وعقلك وسيلة من وسائل الإدراك، مثل العين والأذن واللسان. إن مهمة العقل أن يدرك، فتكليفه يدعوه إلى أن يفهم أمراً ولا يفهم أمرا آخر، وجعل الله الآيات المحكمة ليربح العقل من مهمة البحث عن حكمة الأمر المحكم؛ لأنها قد تعلو الإدراك البشري. ويريد الحق أن يلزم العبد آداب الطاعة حتى في الشيء الذي لا تدرك حكمة تشريعه، وأيضا لتحرك عقلك لترد كل المتشابه إلى المحكم من الآيات. وإذا قرأنا قول الحق:

{لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير "103"}
(سورة الأنعام)


نرى أن ذلك كلام عام. وفي آية أخرى يقول سبحانه:

{وجوه يومئذٍ ناضرة "22" إلى ربها ناظرة "23" }
(سورة القيامة)


ويتكلم عن الكفار فيقول:

{كلا إنهم عن ربهم يومئذٍ لمحجوبون "15" }
(سورة المطففين)


 

قديم 11-10-2011, 05:03 PM   #292
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 8

(ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب"8")
فكأن قول الراسخين في العلم: إن كل محكم وكل متشابه هو من عند الله، والمحكم نعمل به، والمتشابه نؤمن به، فهذه هي الهداية؛ ثم يكون الدعاء بالثبات على هذه الهداية، والمعنى: يا رب ثبتنا على عبادتك ولا تجعل قلوبنا تميل أو تزيع. وهذا يدلنا على أن القلوب تتحول وتتغير؛ لذلك يأتي القول الفصل بالدعاء على الثبات الإيماني:

{ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب "8" }
(سورة آل عمران)


إنهم يطالبون رحمة هبة لا رحمة حق، فليس هناك مخلوق له حق على الله إلا ما وهبه الله له. والراسخون في العلم يطلبون من الله الرحمة من الوقوع في الهوى بعد أن هداهم الله إلى هذا الحكم السليم بأن المتشابه والمحكم كل من عند الله ويعلموننا كيف يكون الطريق إلى الهداية وطلب رحمة الهبة. والراسخ في العلم مادام قد علم شيئا فهو يريد أن يشيعه في الناس، لذلك يقول لنا:
إياكم أن تظنوا أن المسألة مسألة فهم لنص وتنتهي، إن المسألة يترتب عليها أمر آخر، هذا الأمر الآخر لا يوجد في الدنيا فقط، فهناك آخرة، فالدنيا مقدور عليها لأنها محدودة الأمد ومنتهية، ولكن هناك الآخرة التي تأتي بعد الدنيا حيث الخلود، فيقول الحق على لسان الراسخين في العلم:


 

قديم 11-10-2011, 05:03 PM   #293
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 9

(ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد "9")
وقولهم: "ربنا" نفهم منه أنه الحق المتولي التربية، ومعنى التربية هو إيصال من تتم تربيته إلى الكمال المطلوب له، فهناك رب يربي، وهناك عبد تتم تربيته، والرب يعطي الإنسان ما يؤهله إلى الكمال المطلوب له.
والمؤمنون يرجون الله قائلين: يا رب من تمام تربيتك لنا أن تحمينا من عذاب الآخرة، فإذا ما عشنا الدنيا وانتهت فنحن نعلم أنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه، ومادمت ربا، ومادمت إلها فإنك لا تخلف الميعاد؛ فالذي يخلف الميعاد لا يكون إلها؛ لأن الإله ساعة الوعد يعلم بتمام قدرته وكمال علمه أنه قادر على الإنفاذ، إنما الذي ليس لديه قدرة على الإنفاذ لا يستطيع أن يعد إلا مشمولا بشيء يستند إليه، كقولنا نحن العباد: "إن شاء الله" لماذا؟ لأن الواحد منا لا يملك أن يفي بما وعد.
حينما تعرضنا إلى قول الحق سبحانه وتعالى:

{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا "23" إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا "24" }
(سورة الكهف)


قلنا إياك أن تقول: إني سأفعل شيئا إلا أن تشتمله وتربطه بمشيئة الله؛ لأنك أنت إن وعدت، فأنت لا تضمن عمرك ولا إنفاذ وعدك، إنك لن تفعل شيئا إلا بإرادة الله، لذلك فلا تعد إلا بالمشيئة، لأنك تعد بما لا تضمن، فأنت في حقيقة الأمر لا تملك شيئا، فإن أردت فعل أي شيء أو الذهاب إلى أي مكان فالفعل يحتاج إلى فاعل ومفعول وزمان ومكان وسبب، ثم يحتاج إلى قدرة لتنفيذ الفعل. والإنسان لا يملك من هذه الأشياء إلا ما يشاء الله له أن يملكه. إن الإنسان لا يملك أن يظل فاعلا. والإنسان لا يملك إن وجد الفاعل أن يوجد المفعول. والإنسان لا يملك الزمن، ولا يملك المكان، بل لا يملك الإنسان أن يظل السبب قائما ليفعل ما كان يريد أن يفعله؛ فكل هذه العناصر، الفاعل والمفعول، والزمان، والمكان، والسبب، لا يملكها إلا الله. لذلك فليحم الإنسان نفسه من أن يكون كاذبا ومجازفا وليكن في ظل قوله تعالى:

{ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا "23" إلا أن يشاء الله واذكر ربك إذا نسيت وقل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا "24" }
(سورة الكهف)


إن كلمة "إلا أن يشاء الله" تعصم الإنسان من أن يكون كاذبا. وعندما لا يحدث الذي يعد به الإنسان فمعنى ذلك أن الله لم يشأ؛ لأن الإنسان لا يملك عنصراً واحداً من عناصر هذا الفعل. وعندما يقول الحق: "ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد" لأن الذي يخلف الميعاد إنما تمنعه قوة قاهرة تأتيه؛ ولو من تغير نفسه تمنعه أن يفعل، أما الله فلا تأتي قوة قاهرة لتغير ما يريد أن يفعل، ولا يمكن أن يتغير؛ لأن التغير ليس من صفات القديم الأزلي.
وحين يؤكد الحق أنه سيتم جمعنا بمشيئته في يوم لا ريب فيه، وأن الله لا يخلف الميعاد، فمن المؤكد أننا سنلتقي. وسنلتقي لماذا؟ لقد قال الراسخون في العلم: علمنا بالمحكم، وآمنا بالمتشابه، ودعوا الله أن يثبت قلوبهم على الهداية رحمة من عنده، وأن يبعد قلوبهم عن الزيغ؛ لأنهم خائفون من اليوم الذي سيجمع الله الناس فيه، إننا سنلتقي للحساب على أفعالنا وإيماننا.


 

قديم 11-10-2011, 05:03 PM   #294
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 10

(إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار "10")
ساعة تسمع وأنت المؤمن، ويسمع معك الكافر، ويسمع معك المنافق: "ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد" ربما فكر الكافر أو المنافق أن هناك شيئا قد ينقذه مما سيحدث في ذلك اليوم، كعزوة الأولاد، أو كثرة مال يشتري نفسه به، أو خلة، أو شفاعة، هنا يقول الحق لهم: لا، إن أولادكم وأموالكم لا تغني عنكم شيئا. وفي اللغة يقال: هذا الشيء لا يغني فلاناً، أي أنه يظل محتاجاً إلى غيره؛ لأن الغني هو ألا تحتاج إلى الغير، فالأموال والأولاد لا تغني أحداً في يوم القيامة، والمسألة لا عزوة فيها، ولا أنساب بينهم يومئذ والجنة ليست للبيع، فلا أحد يستطيع شراء مكان في الجنة بمال يملكه.
وكان الكافرون على أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون ذلك القول الشاذ يقولون: مادام الله قد أعطانا أموالاً وأولاداً في الدنيا فلابد أن يعطينا في الآخرة ما هو أفضل من ذلك. ولذلك يقول الله لهم: "إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا" إذن فالأمر كله مردود إلى الله. صحيح في هذه الدنيا أن الله قد يخلق الأسباب، والكافر تحكمه الأسباب، وكذلك المؤمن، فإذا ما أخذ الكافر بالأسباب فإنه يأخذ النتيجة، ولكن في الآخرة فالأمر يختلف؛ فلن يملك أحد أسباباً، ولذلك يقول الحق عن اليوم الآخر:

{يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار "16"}
(سورة غافر)


إن البشر في الدنيا يملكون الأسباب، ويعيشون مختلفين في النعيم على اختلاف أسبابهم، واختلاف كدحهم في الحياة، واختلاف وجود ما يحقق للإنسان المتع، لكن الأمر في الآخرة ليس فيه كدح ولا أسباب؛ لأن الإنسان المؤمن يعيش بالمسبب في الآخرة وهو الله ـ جلت قدرته ـ فبمجرد أن يخطر الشيء على بال المؤمن في الجنة فإن الشيء يأتي له. أما الكفار فلا يغني عنهم مالهم ولا أولادهم، لأنهم انشغلوا في الدنيا بالمال والأولاد وكفروا بالله.

{سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا وأهلونا فاستغفر لنا يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم }
(من الآية 11 سورة الفتح)


إذن فما انشغل به الكفار في الدنيا لن ينفعهم، ويضيف الحق عن الكفار في تذييل التي نحن بصددها: "وأولئك هم وقود النار" إنهم المعذبون، وسوف يتعذبون في النار. ولنر النكاية الشديدة بهم، إن الذين يعذبون هم الذي يعذبون؛ لأنهم بأنفسهم سيكونون وقود النار. إن المعذب ـ بفتح العين وفتح الذال مع التشديد ـ يكون هو المعذب ـ بفتح العين وكسر الذال مع التشديد.
فهذه ثورة الأبغاض. فذرات الكافر مؤمنة، وذرات العاصي طائعة، والذي جعل هذه الذرات تتجه إلى فعل ما يغضب الله هو إرادة صاحبها عليها. وضربنا قديما المثل ـ ولله المثل الأعلى ـ وقلنا: هب أن كتيبة لها قائد فالمفروض في الكتيبة أن تسمع أمر القائد، وتقوم بتنفيذ ما أمر به؛ فإذا ما جاءوا للأمر والقائد الأعلى بعد ذلك فإنهم يرفعون أمرهم إليه ويقولون له: بحكم الأمر نفذنا العمل الذي صدر لنا من قائدنا المباشر وكنا غير موافقين على رأيه. وفي الحياة الإيمانية نجد القول الحكيم من الخالق:

{يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون "24"}
(سورة النور)


فكان اللسان ينطق بكلمة الكفر وهو لاعن لصاحبه. واليد تتقدم إلى المعصية وهي كارهة لصاحبها ولا عنة له، إن إرادة الله العليا هي التي جعلت للكافر إرادة على يده ولسانه في الدنيا، وينزع الله إرادة الكافر عن جوارحه يوم القيامة فتشهد عليه أنه أجبرها على فعل المعاصي، وتعذب الأبعاض بعضها، وعندما يقول الحق: "وأولئك هم وقود النار" وهنا مسألة يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين يجب أن نلتفت إليها ونأخذها من واقع التاريخ، هذه المسألة هي أن الذين كفروا برسالات الله في الأرض تلقوا بعض العذاب في الدنيا؛ لأن الله لا يدخر كل العقاب للآخرة وإلا لشقي الناس بالكافرين وبالعاصين، ولذلك فإن الله يعجل بشيء من العقاب للكافرين والعاصين في هذه الدنيا.


 

قديم 11-10-2011, 05:03 PM   #295
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 11

(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب "11")
وساعة تسمع "كدأب كذا" فالدأب هو العمل بكدح وبلا انقطاع فنقول: فلان دأبه أن يفعل كذا أي هو معتاد دائما أن يفعل كذا. أو نقول: ليس لفلان دأب إلا أن يغتاب الناس. فهل معنى ذلك أن كل أفعاله محصورة في اغتياب الناس، أو أنه يقوم بأفعال أخرى؟ إنه يقوم بأفعال أخرى لكن الغالب عليه هو الاغتياب، وهذا هو الدأب. فالدأب هو السعي بكدح وتوال حتى يصبح الفعل بالتوالي عادة. إذن فقوله الحق: "كدأب آل فرعون" أي كعادة آل فرعون. وآل فرعون هم قوم جاءوا قبل الرسالة الإسلامية، وقبلهم كان قوم ثمود وعاد وغيرهم.
ويلفتنا الحق سبحانه إلى أن ننظر إلى هؤلاء ونرى ما الذي حدث لهم، إنه سبحانه لم يؤخر عقابهم إلى الآخرة؛ لأنه ربما ظن الناس أن الله قد ادخر عذاب الكافرين إلى الآخرة؛ لأنه قال:

{إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا وأولئك هم وقود النار "10"}
(سورة آل عمران)


لا، بل العذاب أيضا في الدنيا مصداقاً لقوله الحق:

{لهم عذاب في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أشق وما لهم من الله من واق "34" }
(سورة الرعد)


إن العذاب لو تم تأجيله إلى الآخرة لشقي الناس بالأشقياء، لذلك يأتي الله بأمثلة من الحياة ويقول: "كدأب آل فرعون" أي كعادة آل فرعون، ولا تصير مسألة عادة إلا بالكدح في العمل، وكان دأب آل فرعون هو التكذيب والطغيان وادعاء فرعون الألوهية. ويقول سبحانه: "والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا، فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب" فصار الدأب منهم، ومما وقع بهم، فإذا كانوا قد اعتادوا الكفر والتكذيب فقد أوقع الله عليهم العذاب. لقد كان دأب آل فرعون هو التكذيب، والخالق ـ سبحانه ـ يجازيهم على ذلك بتعذيبهم، ولتقرأ إن شئت قول الحق سبحانه وتعالى:

{والفجر "1" وليال عشر "2" والشفع والوتر "3" والليل إذا يسر "4" هل في ذلك قسم لذي حجر "5" ألم تر كيف فعل ربك بعاد "6" إرم ذات العماد "7" التي لم يخلق مثلها في البلاد "8" وثمود الذين جابوا الصخر بالواد "9" وفرعون ذي الأوتاد "10" الذين طغوا في البلاد "11" فأكثروا فيها الفساد "12" فصب عليهم ربك سوط عذاب "13" إن ربك لبالمرصاد "14"}
(سورة الفجر)


فدأبهم التكذيب وجزاء الله لهم على ذلك هو العذاب والعقاب. إذن فقوله الحقك "فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب" أي أوقع بهم العذاب في الدنيا، وكانت النهاية ما كانت في آل فرعون وثمود ومن قبلهم من القوم الكافرين.
وعندما تسمع قول الله: "والله شديد العقاب" فالذهن ينصرف إلى أن هناك ذنباً يستحق العقاب. وكل الأمور من المعنويات مأخوذة دائماً من المحسات؛ لأن الأصل في إيجاد أي معلومات معنوية هو المشاهد الحسية، وتنقل الأشياء الحسية إلى المعنويات بعد ذلك. لماذا؟ لأن الشيء الحسي مشهود من الجميع، أما الشيء المعنوي فلا يفهمه إلا المتعقلون، والإنسان له أطوار كثيرة. ففي طور الطفولة لا يفهم ولا يعقل الإنسان إلا الأمر المحسوس أمامه.
وقلت قديما في معنى كلمة "الغصب": إنه أخذ وسلب شيء من إنسان صاحب حتى بقوة، وهذا أمر معنوي له صورة مشهدية؛ لأن الذي يسلخ الجلد عن الشاة نسميه غاصباً. ولنر كيف يكون أخذ الحق من صاحبه، إنه كالسلخ تماماً، فالكلمة تأتي للإيضاح. وكلمة "ذنب" وكلمة "عقوبة" مترابطتان؛ فكلمة "ذنب" مأخوذة من مادة ذنب؛ لأن المادة كلها تدل على "التالي" والذنب يتلو المقدمة في الحيوان. والعقاب هو ما يأتي عقب الشيء.
إذن فهناك ذنب وهناك عقاب. ولكن ماذا قبل الذنب، وماذا يتلو العقاب؟ لا يوجد ذنب إلا إذا وجد نص يجرم، فلا ذنب إلا بنص. فليس كل فعل هو ذنب، بل لابد من وجود نص قبل وقوع الذنب. يجرم فعله؛ ولذلك أخذ التقنين الوضعي هذا الأمر، فقال: لا يمكن أن يعاقب إنسان إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص، فلا يمكن أن يأتي إنسان فجأة ويقول: هذا العمل جريمة يعاقب عليها. بل لابد من التنبيه والنص من قبل ذلك على تجريم هذا العمل.
إنه لا عقوبة إلا بتجريم، ولا تجريم إلا بنص. فالنص يوضح تجريم فعل نوع ما من العمل، وإن قام إنسان بهذا العمل فإنه يجرم، ويكون ذلك هو الذنب، فكأن الذنب جاء تالياً لنص التجريم. والعقاب يأتي عقب الجريمة، وهكذا نجد أن كلا من الذنب والجريمة يأخذان واقع اللفظ ومدلوله ومعناه؛ فالذنب هو التالي للشيء. ولذلك يسمون الدلو الذي يملأونه بالماء "ذنوبا" لأنه هو الذي يتلو الحبل. وأيضا الجزاء في الآخرة:

{فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون "59" }
(سورة الذاريات)


 

قديم 11-10-2011, 05:04 PM   #296
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 12

(قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد "12")
إنه أمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم وهو المبلغ عن الله، أن يحمل للكافرين خبراً فيه إنذار. من هم هؤلاء الكفار؟ هل هم كفار قريش؟ الأمر جائز. هل هم اليهود؟ الأم جائز. فالبلاغ يشمل كل كافر.
والنص القرآني حينما يأتي فهو يأتي على غير عادة الناس في الخطاب، ولأضرب هذا المثل ـ ولله المثل الأعلى وسبحانه منزه عن التشبيه أو المثل ـ أنت تقول لابنك: اذهب إلى عمك، وقل له: إن أبي سيحضر لزيارتك غدا. فماذا يكون كلام الابن للعم؟ إن الابن يذهب للعم ويقول له: إن أبي سيزورك غدا. لكن الآمر وهو الأب يقول: قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. فإذا كان الابن دقيق الأمانة فهو يقول:
ـ قال أبي: ـ قل لعمك إن أبي سيزورك غدا. وعندما يقول الحق سبحانه "قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد". فهذا معناه قمة الأمانة من الرسول المبلغ عن الله، فنقل للكافرين النص الذي أمره الله بتبليغه للكافرين. وإلا كان يكفي الرسول صلى الله عليه وسلم أن يذهب للكافرين ويقول لهم: ستغلبون وتحشرون. لكن من يدريهم أن هذا الكلام ليس من عند محمد وهو بشر؟ لذلك يبلغهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الله أبلغه أن يبلغهم بقوله: "قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد".
إن الرسول لم يبلغهم بمقول القول: لا، إنما أبلغهم نص البلاغ الذي أبلغه به الله. وساعة يأمر الحق في قرآنه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ أمرا للكافرين فإن الرسول صلى الله عليه وسلم مخاطب، والكفار مخاطبون، فعندما يواجههم فإنه يقول لهم: ستغلبون .. وفي آية أخرى يقول الحق:

{قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين "38"}
(سورة الأنفال)


إن القياس أن يقول: إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف، لكن الحق قال: "إن ينتهوا"، فكأن الله حينما قال كان الكفار غير حاضرين للخطاب ورسول الله هو الحاضر للخطاب، والله يتكلم عن غائبين.
ولكن الله ـ سبحانه ـ في هذه الآية التي نحن بصددها يحمل الرسول تمام البلاغ فمرة يكون النقل من الآمر الأول كما صدر منه سبحانه كقوله: "إن ينتهوا" ومرة يأمره الآمر الأول أن يبلغ الكلمة التي يكون بها مخاطبا أي لا تقل: سيغلبون وقل: "ستغلبون" لأنك أنت الذي ستخاطبهم. وهذه الدقة الأدائية لا يمكن أن تكون قادر حكيم. إنه بلاغ إلى كفار قريش أو إلى مطلق الذين كفروا. والغلب سيكون في الدنيا، والحشر يكون في الآخرة.
فإذا ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينقل النص القرآني "ستغلبون" فمتى قالها رسول الله؟ لقد قالها والمسلمون قلة لا يستطيعون حماية أنفسهم، ولا يقدرون على شيء. وكل مؤمن يحيا في كنف آخر، أو يهاجر إلى مكان بعيد. فهل يمكن أن يأتي هذا البلاغ إلا ممن يملك مطلق الأسباب؟
لقد قالها الرسول مبلغا عن الله، والمسلمون في حالة من الضعف واضحة ومادام قد قالها، فهي حجة عليه، لأن من أبلغه إياها وهو الله قادر على أن يفعلها. "قل للذين كفروا ستغلبون" ليس العقاب في الدنيا فقط، ولكن في الآخرة أيضا "وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد" هذه المسألة بشارة لرسول الله ولأصحابه وإنذار للكافرين به، ويتم تحقيقها في موقعة بدر. فسيدنا عمر بن الخطاب لما نزل قول الله:

{سيهزم الجمع ويولون الدبر "45"}
(سورة القمر)


تساءل عمر بن الخطاب: أي جمع هذا؟ إنه يعلم أن المسلمين ضعاف لا يقدرون على ذلك، وأسباب انتصار المسلمين غير موجودة، ولكن رسول الله لم يكن يكلم المؤمنين بالأسباب، إنما برب الأسباب، فإذا ما تحدى وأنذرهم، مع أنه وصحبه ضعاف أمامهم، فقد جاء الواقع ليثبت صدق الحق في قوله: "ستغلبون" ويتم انتصار المسلمين بالفعل، ويغلبون الكافرين.
ألا يجعل صدق بلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يحدث في الدنيا دليل صدق على ما يحدث في الآخرة؟ إن تحقيق "ستغلبون" يؤكد "وتحشرون إلى جهنم". وفي هذه الآية شيئان: الأول؛ بلاغ عن هزيمة الكفار في الدنيا وهو أمر يشهده الناس جميعا، والأمر الآخر هو في الآخرة وقد يكذبه بعض الناس. وإذا كان الحق قد أنبأ رسوله بأنك يا محمد ستغلب الكافرين وأنت لا تملك أسباب الغلبة عليهم. ومع ذلك يأتي واقع الأحداث فيؤكد أن الكافرين وأنت لا تملك أسباب الغلبة عليهم. ومع ذلك يأتي واقع الأحداث فيؤكد أن الكافرين قد تمت هزيمتهم. ومادام قد صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في البلاغ عن الأولى ولم يكن يملك الأسباب فلابد أن يكون صادقا في البلاغ في الثانية وهي البلاغ عن الحشر في نار جهنم.
وبعض المفسرين قد قال: إن هذه المقولة لليهود؛ لأن اليهود حينما انتصر المسلمون في بدر زلزلوا زلزالا شديدا، فلم يكن اليهود على ثقة في أن الإسلام والمسلمين سينتصرون في بدر، فلما انتصر الإسلام في بدر؛ قال بعض اليهود: إن محمداً هو الرسول الذي وعدنا به الله والأولى أن نؤمن به فقال قوم منهم: انتظروا إلى معكرة أخرى. أي لا تأخذوها من أول معركة، فانتظروا، وجاءت معركة أحد، وكانت الحرب سجالا.
ولنا أن نقول: وما المانع أن تكون الآية لليهود وللمشركين ولمطلق الذين كفروا؟ فاللفظ عام وإن كان قد ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جمع اليهود في سوق بني قينقاع وقال لهم: يا معشر اليهود احذروا مثل ما نزل بقريش واسلموا قبل أن ينزل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نبي مرسل. فماذا قالوا له؟ قالوا له: لا يعرنك أنك لقيت قوما أغماراً ـ أي قوما من غمار الناس لم يجربوا الأمور ـ لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، لئن قاتلتنا لعلمت أنا نحن الناس، فأنزل الله قوله: "قل للذين كفروا ستغلبون .. " إلخ الآية.
والمهاد هو ما يمهد عادة للطفل حتى ينام عليه نوماً مستقراً أي له قرار، وكلمة "بئس المهاد" تدل على أنهم لا قدرة لهم على تغيير ما هم فيه، كما لا قدرة للطف على أن يقاوم من يضعه للنوم في أي مكان.


 

قديم 11-10-2011, 05:04 PM   #297
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة آل عمران - الآية: 13

(قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين والله يؤيد بنصره من يشاء إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار "13")
وحين يقول الحق: "قد كان لكم آية". فمن المخاطب بهذه الآية؟ لاشك أن المخاطب بهذه الآية كل من كانت حياته بعد هذه الواقعة، سواء كان مؤمنا أو كافرا، فالمؤمن تؤكد له أن نصر الله يأتي ولو من غير أسباب، والكافر تأتي له الآية بالعبرة في أن الله يخذله ولو بالأسباب، إن الله جعل من تلك الموقعة آية. والآية هي الشيء العجيب أي إن واقعه ونتائجه لا تأتي وفق المقدمات البشرية.
نعم هذا خطاب عام لكل من ينتسب إلى أي فئة من الفئتين المتقاتلين، سواء كانت فئة الإيمان أو فئة الكفر. ففئة الإيمان لكي تفهم أنه ليست الأسباب المادية هي كل شيء في المعركة بين الحق والباطل، لأن لله جنودا لا يرونها. وكذلك يخطئ هذا الخطاب فئة الكافرين فلا يقولون: إن لنا أسبابنا من عدد وعدة قوية، فقد وقعت المعركة بين الحق والباطل من قبل؛ وقد انتصر الحق.
وكلمة "فئة" إذا سمعتها تصورت جماعة من الناس، ولكن لها خصوصية؛ فقد توجد جماعة ولكن لكل واحد حركة في الحياة. ولكن حين نسمع كلمة "فئة" فهي تدل على جماعة، وهي بصدد عمل واحد. ففي غير الحرب كل واحد له حركة قد تختلف عن حركة الآخر. ولكن كلمة "فئة" تدل على جماعة من الناس لها حركة واحدة في عمل واحد لغاية واحدة.
ولاشك أن الحرب تصور هذه العملية أدق تصوير، بل إن الحرب هي التي توحد كل فئةٍ في سبيل الحركة الواحدة والعمل الواحد للغاية الواحدة؛ لأن كل واحد ن أي فئة لا يستطيع أن يحمي نفسه وحده، فكل واحد يفئ ويرجع إلى الجماعة، ولا يستطيع أن ينفصل عن جماعته. ولكن الفرد في حركة الحياة العادية يستطيع أن ينفصل عن جماعته.
إذن فكلمة "فئة" تدل على جماعة من الناس في عملية واحدة، وتأتي الكلمة دائما في الحرب لتصور كل معسكر يواجه آخر. وحين يقول الحق: "قد كان لكم آية في فئتين التقتا" أي أن هناك صراعا بين فئتين، ويوضح الحق ماهية كل فئة فيقول: "فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة". وحين ندقق النظر في النص القرآني، نجد أن الحق لم يورد لنا وصف الفئة التي تقاتل في سبيل الله ولم يذكر أنها فئة مؤمنة، وأوضح أن الفئة الأخرى كافرة، وهذا يعني أن الفئة التي تقاتل في سبيل الله لابد أن تكون فئة مؤمنة، ولم يورد الحق أن الفئة الكافرة تقاتل في سبيل الشيطان اكتفاء بأن كفرها لابد أن يقودها إلى أن تقاتل في سبيل الشيطان.


 

قديم 11-10-2011, 07:53 PM   #298
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الرعد - الآية: 1

(المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "1")
وقد سبق لنا أن تكلمنا طويلاً في خواطرنا عن الحروف التي تبدأ بها من سور القرآن الكريم: مثل قوله الحق:

{آلم "1"}
(سورة البقرة)


وقوله:

{آلمر .. "1"}
(سورة الرعد)


ومثل قوله:

{آلمص "1"}
(سورة الأعراف)


وغير 1لك من الحروف التوقيفية التي جاءت في أول بعض من فواتح السور. ولكن الذي أحب أن أؤكد عليه هنا هو أن آيات القرآن كلها مبنية على الوصل؛ لا على الوقف؛ ولذلك تجدها مشكولة؛ لأنها موصولة بما بعدها.
وكان من المفروض ـ لو طبقنا هذه القاعدة ـ أن نقرأ "المر" فننطقها: "ألف" "لام" "ميم" "راء"، ولكن شاء الحق سبحانه هنا أن تأتي هذه الحروف في أول سورة الرعد مبنية على الوقف، فنقول: "ألف" "لام" "ميم" "راء".
وهكذا قرأها جبريل عليه السلام على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم؛ وهكذا نقرأها نحن. ويتابع سبحانه:

{تلك آيات الكتاب .. "1"}
(سورة الرعد)


أي: أن السورة القادمة إليك هي من آيات الكتاب الكريم ـ القرآن ـ وهي إضافة إلى ما سبق وأنزل إليك، فالكتاب كله يشمل من أول

{بسم الله الرحمن الرحيم "1"}
(سورة الفاتحة)


في أول القرآن، إلى نهاية سورة الناس.
ونعلم أن الإضافة تأتي على ثلاث معان؛ فمرة تأتي الإضافة بمعنى "من" مثل قولنا "أردب قمح" والمقصود: أردب من القمح. ومرة تأتي الإضافة بمعنى "في" مثل قولنا: "مذاكرة المنزل" والمقصود: مذاكرة في المنزل. ومرة ثالثة تأتي الإضافة بمعنى "اللام" وهي تتخذ شكلين.
إما أن تكون تعبيراً عن ملكية، كقولنا "مال زيد لزيد". والشكل الثاني أن تكون اللام للاختصاص كقولنا "لجام الفرس" أي: أن اللجام يخص الفرس؛ فليس معقول أن يملك الفرس لجاماً. إذن: فقول الحق سبحانه هنا:

{تلك آيات الكتاب .. "1"}
(سورة الرعد)


يعني تلك آيات من القرآن؛ لأن كلمة "الكتاب" إذا أطلقت؛ فهي تنصرف إلى القرآن الكريم. والمثل هو القول "فلان الرجل" أي: أنه رجل حقاً؛ وكأن سلوكه هو معيار الرجولة، وكأن خصال الرجولة في غيره ليست مكتملة كاكتمالها فيه، أو كقولك "فلان الشاعر" أي: أنه شاعر متميز للغاية.
وهكذا نعلم أن كلمة "الكتاب" إذا أطلقت ينصرف في العقائد إلى القرآن الكريم، وكلمة الكتاب إذا أطلقت في النحو انصرفت إلى كتاب سيبوية الذي يضم قواعد النحو. ويتابع سبحانه في وصف القرآن الكريم:

{والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "1"}
(سورة الرعد)
ونعلم أن مراد الذي يخالف الحق هو أن يكسب شيئاً من رواء تلك المخالفة. وقد قال سبحانه في أواخر سورة يوسف:

{وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين "103"}
(سورة يوسف)


ثم وصف القرآن الكريم، فقال تعالى:

{ما كان حديثاً يفتري ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيءٍ وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون "111"}
(سورة يوسف)


وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يريد الكسب منكم، لكنه شاء أن ينزل هذا الكتاب لتكسبوا أنتم:

{ولكن أكثر الناس لا يؤمنون "1"}
(سورة الرعد)


أي: أن أكثر من دعوتهم إلى الإيمان بهذا الكتاب الحق لا يؤمنون بأنه نزل إليك من ربك؛ لأنهم لم يحسنوا تأمل ما جاء فيه؛ واستسلموا للهوى. وأرادوا السلطة الزمنية، ولم يلتفتوا إلى أن ما جاء بهذا الكتاب هو الذي يعطيهم خير الدنيا والآخرة. ويقول سبحانه بعد ذلك:


 

قديم 11-10-2011, 07:53 PM   #299
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الرعد - الآية: 2

(الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون "2")
وكلمة "الله" علم على واجب الوجود؛ مطمورة فيه كل صفات الكمال؛ ولحظة أن تقول "الله" كأنك قلت "القادر" "الضار" "النافع" "السميع" "البصير" "المعطي" إلى آخر أسماء الله الحسنى.

<ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: "كل عمل لا يبدأ باسم الله هو أبتر">

لأن كل عمل لا يبدأ باسمه سبحانه؛ لا تستحضر فيه أنه سبحانه قد سخر لك كل الأشياء، ولم تسخر أنت الأشياء بقدرتك. ولذلك، فالمؤمن هو من يدخل على أي عمل بحيثية "بسم الله الرحمن الرحيم"؛ لأنه سبحانه هو الذي ذلل للإنسان كل شيء، ولو لم يذللها لما استجابت لك أيها الإنسان.
وقد أوضح الحق سبحانه ذلك في أمثلة بسيطة؛ فنجد الطفل الصغير يمسك بحبل ويربطه في عنق الجمل، ويأمره بأن "ينخ" ويركع على أربع؛ فيمتثل الجمل لذلك. ونجد البرغوث الصغير؛ يجعل الإنسان ساهراً الليل كله عندما يتسلل إلى ملابسه؛ ويبذل هذا الإنسان الجهد الجهيد ليمسك به؛ وقد يستطيع ذلك؛ وقد لا يستطيع.
وهكذا نعرف أن أحداً لم يسخر أي شيء بإرادته أو مشيئته، ولكن الحق سبحانه هو الذي يذلل كل الكائنات لخدمة الإنسان. والحق سبحانه هو القائل:

{وذللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون "72"}
(سورة يس)


وأنت حين تقبل على أي عمل يحتاج إلى قدرة فتقول: "باسم القادر الذي أعطاني بعض القدرة". وإن أقبلت على عمل يحتاج مالاً؛ تقول: "باسم الغني الذي وهبني بعضاً من مال أقضي به حاجتي".
وفي كل عمل من الأعمال التي تقبل عليها تحتاج إلى قدرة؛ وحكمة؛ وغنى، وبسط؛ وغير ذلك من صفات الحق التي يسخر بها سبحانه لك كل شيء؛ فشاءت رحمته سبحانه أن سهل لنا أن نفتتح أي عمل باسمه الجامع لكل صفات الجمال والكمال "بسم الله الرحمن الرحيم".
ولذلك يسمونه "علم على واجب الوجود". وبقية الأسماء الحسنى صفات لا توجد بكمالها المطلق إلا فيه؛ فصارت كالاسم.
فالعزيز على إطلاقه هو الله. ولكنا نقول عن إنسان ما "عزيز قومه"، ونقول "الغني" على إطلاقه هو الله، ولكن نقول "فلان غني" و"فلان فقير". وهكذا نرى أنها صفات أخذت مرتبة الأسماء؛ وهي إذا أطلقت إنما تشير إليه سبحانه.
وعرفنا من قبل أن أسماء الله؛ إما أن تكون أسماء ذات؛ وإما أن تكون أسماء صفات؛ فإن كان الاسم لا مقابل له فهو اسم ذات؛ مثل: "العزيز". أما إن كان الاسم صفة الصفة والفعل، مثل "المعز" فلابد أن له مقابلاً، وهو هنا "المذل".
ولو كان يقدر أن يعز فقط؛ ولا يقدر أن يذل لما صار إلهاً، ولو كان يضر فقط، ولا ينفع أحداً لما استطاع أن يكون إلهاً، ولو كان يقدر أن يبسط، ولا يقدر أن يقبض لما استطاع أن يكون إلهاً.
وكل هذه صفات لها مقابلها؛ ويظهر فعلها في الغير؛ فسبحانه ـ على سبيل المثال ـ عزيز في ذاته؛ ومعز لغيره، ومذل لغيره. وكلمة "الله" هي الاسم الجامع لكل صفات الكمال، وهناك أسماء أخرى علمها الله لبعض من خلقه، وهناك أسماء ثالثة سنعرفها إن شاء الله حين نلقاه:

{وجوه يومئذ ناضرة "22" إلى ربها ناظرة "23"}
(سورة القيامة)


ونلحظ أن الحق سبحانه بدأ هذه الآية بالحديث عن العالم العلوي أولاً؛ ولم يتحدث عن الأرض؛ فقال:

{الله الذي رفع السماوات .. "2"}
(سورة الرعد)


وكلمة "رفع" إذا استعملتها استعمالاً بشرياً؛ تدل أن شيئاً كان في وضع ثم رفعته عن موضعه إلى أعلى؛ مثل قول الحق سبحانه:

{ورفع أبويه على العرش .. "100"}
(سورة يوسف)


 

قديم 11-10-2011, 07:54 PM   #300
الشاكر
مراقب عام


الصورة الرمزية الشاكر
الشاكر غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 29965
 تاريخ التسجيل :  03 2010
 أخر زيارة : 28-03-2023 (01:07 PM)
 المشاركات : 34,379 [ + ]
 التقييم :  253
 الدولهـ
Yemen
 الجنس ~
Male
لوني المفضل : Royalblue


تفسير سورة الرعد - الآية: 3

(وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون "3")
ويتابع الحق سبحانه سرد آياته الكونية في هذه الآية:

{مد الأرض .. "3"}
(سورة الرعد)


يعني أنها موجودة أمامك وممتدة، وبعض الناس يفهمون المد بمعنى البسط، ونقول: إن البسط تابع للمد. ولذلك وقف بعض العلماء وقالوا: ومن قال إن الأرض كروية؟
إن الحق سبحانه قال: إنها مبسوطة، وهو سبحانه الذي قال: إنه قد مد الأرض.
وقلت لهؤلاء العلماء: فلنفهم كلمة المد أولاً، ولنفهم أيضاً كلمة "الأرض" وهي التي تقف عليها أنت وغيرك، وتعيش عليها الكائنات، وتمتد شمالاً إلى القطب الشمالي، وجنوباً إلى القطب الجنوبي، أياً ما كنت في أي موقع فهي ممدودة شرقاً وغرباً. ومعنى:

{مد الأرض .. "3"}
(سورة الرعد)


تعني أنك إن وقفت في مكان وتقدمت منه؛ تجد الأرض ممدودة أمامك؛ ولا توجد حافة تنتهي لها، ولو أنها كانت مبسوطة لكان لها نهاية، ولكانت على شكل مثلث أو مربع أو مستطيل؛ ولكان لها حافة؛ ولوجدنا من يسير إلى تلك الحافة، هو يقول: "لقد وصلت لحافة الأرض؛ وأمامي الفراغ" ولم يحدث أن قال ذلك واحد من البشر.
وإذا ما سار إنسان على خط الاستواء مثلاً؛ فسيظل ماشياً على اليابسة أو راكباً لمركب تقطع به البحر أو المحيط ليصل إلى نفس النقطة التي بدأ منها سيره.
وهكذا نجد الأرض ممدودة غير محدودة، ولا يكون ذلك إلا إذا كانت الأرض مكورة، بحيث إذا مشيت متتبعاً أي خط من خطوط العرض أو خطوط الطول لانتهت إلى النقطة التي بدأت منها سيرك.
وكان هذا هو الدليل الذي يقدمه العلماء على كروية الأرض؛ قبل أن يخترعوا فكرة التصوير من خارج الغلاف الجوي. ونأخذ من قول الحق سبحانه:

{وهو الذي مد الأرض .. "3"}
(سورة الرعد)


معنى آخر هو ضرورة أن ينظر الإنسان في هذا الامتداد؛ ومن تضيق به الحياة في مكان يمكنه أن يرحل إلى مكان آخر، فأرض الله واسعة، والحق سبحانه هو القائل:

{ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .. "97"}
(سورة النساء)


ونعلم أن فساد العالم في زمننا إنما نشأ من فساد السياسات وزيادة الاضطرابات، وذلك واحد من نتائج تعوق مد الأرض فساعة يحاول إنسان أن يترك حدود موطنه؛ يجد الحراسات والعوائق عند حدود البلاد المجاورة، وتناسى الجميع قول الحق سبحانه:

{والأرض وضعها للأنام "10"}
(سورة الرحمن)


فسبحانه قد سخر الأرض وأخضعها للأنام كل الأنام، وإذا لم يتحقق هذا المبدأ القرآني؛ سيظل العالم في صراع؛ وستظل بعض من البلاد في حاجة للبشر وبعض من البلاد في ضيق من الرزق؛ لزيادة السكان عن إمكانات الأرض التي يعيشون عليها. وستظل هناك أرض بلا رجال؛ ورجال بلا أرض، نتيجة للحواجز المصطنعة بين البلاد. وحتى تحل هذه القضية ـ كما قلنا في الأمم المتحدة ـ لابد من تطبيق المبدأ القرآني:

{والأرض وضعها للأنام "10"}
(سورة الرحمن)


ومن تضيق به الأرض التي نشأ فيها فليسمح له بالهجرة. ويتابع سبحانه في نفس الآية:

{وجعل فيها رواسي وأنهار .. "3"}
(سورة الرعد)


والرواسي هي جمع "راسٍ" وهو الشيء الثابت. وسبحانه يقول:

{والجبال أرسها "32"}
(سورة النازعات)


وهكذا جاء الحق بالحكم الذي شاء أن تكون عليه الجبال، وفي آية أخرى يأتينا الله بعلة كونها رواسي؛ فيقول:

{وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم .. "31"}
(سورة الأنبياء)


 

موضوع مغلق


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:27 PM


Powered by vBulletin® Version 3.8.11
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.
new notificatio by 9adq_ala7sas
User Alert System provided by Advanced User Tagging (Lite) - vBulletin Mods & Addons Copyright © 2024 DragonByte Technologies Ltd. Runs best on HiVelocity Hosting.
المواضيع المكتوبة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع رسميا