الموضوع: لذة العقل
عرض مشاركة واحدة
قديم 04-04-2023, 12:32 AM   #2
محب المعرفة
عضو جديد


الصورة الرمزية محب المعرفة
محب المعرفة غير متواجد حالياً

بيانات اضافيه [ + ]
 رقم العضوية : 62602
 تاريخ التسجيل :  03 2023
 أخر زيارة : 21-10-2023 (03:56 AM)
 المشاركات : 6 [ + ]
 التقييم :  10
لوني المفضل : Cadetblue




الفصل الأول

ماهية البيت الفكري وأهميته

عزيزي الإنسان،

مما لا شك فيه أن الوضع الحالي لعالمنا بكل مآسيه هو مرآة تعكس صورة الوضع الحالي لفكرنا بكل نواقصه.. هذا الفكر المشوش والذي تشوبه الفوضى يعود سببه إلى أفكار فاسدة سائدة اعتمد في بنائها على مناهج أحادية مختلفة كالعلمي المتعصب أو الديني المتطرف أو الفلسفي الجاف بالرغم من وجود ميدان عمل واحد مشترك بين الأصناف الثلاثة هو الذهن، أداة عمل واحدة هي العقل ووجود غاية واحدة يسعى كل صنف إلى تحقيقها بطريقته الخاصة وهي خدمة الإنسان. إن هذه الأفكار الفاسدة السائدة التي قسمت العالم وأساءت له مآلها الاندحار والتلاشي وبناؤها سيسقط لا محالة عاجلا أم آجلا ، هذا بالإضافة إلى أن البناء المغشوش تسبق انهياره لحظات يتعرض خلالها هذا الأخير إلى هزات وانكسارات تكون شديدة كلما اشتد الظرف المسبب لها، ولعل أن الهزات التي تعرضت إليها الإنسانية سابقا والتي تتعرض إليها الآن أهون بكثير مما ستتعرض إليه لاحقا إذا استمرت في إتباع نفس الأساليب في عملية استكمال تشييد البيت الفكري الممكن اعتباره ملجأ لكل العقول.

يمكن تعريف الفكر بأنه نتاج عمل العقل حيث يعتبر الذهن حقله. ونطلق مصطلح الفكر على المجموعة التي تشمل كل القضايا والمسائل التي تربط الإنسان بنفسه وبالعالم الخارجي وما ينتج عن التأثير الحاصل بينهما بفعل العقل. إنه أمر يستلزم وجود مجموعة تعريف كما في الرياضيات يؤول حسبها في حل كل المسائل إلى معادلات فكرية متوازنة، فمثلما يوجد بين المسائل ما هو موضوعي يعتمد على الحقيقة في حله، يوجد كذلك ما هو اعتقادي يعتمد على المسلمات من أجل إقرار توازنه، مما يترتب على ذلك أن تختلف درجات سلم توازن المعادلات الفكرية بحسب اختلاف مناهج التفكير. فهناك من ينظر إلى فكرة معينة على أنها صحيحة وغير قابلة لتأويلات أخرى مكتفيا لاقتناعه بأسباب ربما قد تكون تافهة بينما ينظر آخر لنفس الفكرة نظرة مغايرة مستخدما أساليب تفوق حدتها المنطقية حدة الأولى، ولهذا السبب تأخذ المعرفة، التي هي مجموع المعادلات الفكرية المتوازنة، ألوانا عديدة فنجد مثلا المعرفة العامية، المعرفة الدينية، المعرفة العلمية، المعرفة الفلسفية...، ومع ذلك يبقى أرقى أنواع المعرفة هو ما يأتي عن طريق الاستدلال السريع والإدراك المباشر كما ندرك أن الكل أكبر من الجزء. وهذه الطريقة البديهية يعرفها الكثير عن إقليدس الذي يعترف بحسرة أن الأشياء التي تمكن من معرفتها عن طريق هذا النوع من المعرفة قليلة جدا.
وإذا كانت الفكرة مهما بلغ صوابها لا بد وأن يتم التحقق منها ومن الأسباب التي أدت إلى تصديقها فإن بعض الأفكار توجد ضمن مجموعة الفكر تتطلب منا أن نثور عليها، فكم من نظرية آمن الناس بها ووضعوها فوق كل جدل ثم تلاشت بعد ذلك. ولو وجد ثمة اتفاق بين فكرة وموضوع فلا يعني ذلك أنه حقيقة إلا في حالة ما إذا تخلص الموضوع من أهواء المفكر وميوله لأن في صميم كل فرد تصور ذاتي عميق له سلطة بالغة في تحديد موقفه من مجرى الأحداث، علما أن قيمة الموقف أو الرأي تتعلق بكفاءة صاحبه وحريته في التفكير.. وللتربية والتعليم في ذلك أثر كبير.

وكيفما كان الحال، فالتعامل مع الموجودات والأحداث هو تفاعل معها تخضع فيه الأفكار إلى التحلل مثلما تتحلل الجزيئات في التفاعل الكيميائي من صيغة إلى أخرى، هذا وأن حدوث التفاعل لا يتم إلا بوجود أجساما متفاعلة وحافزا يساعد على التفاعل، ففي غياب الأوكسجين مثلا يتوقف الاحتراق كما تتوقف عدة تفاعلات كيميائية. لهذا يصبح من الضروري توفير الحقيقة التي من شأنها أن تلعب دور الحافز في التفاعل الفكري لأنها ستساعد على تفكيك الأفكار من أجل إعادة صياغتها. وتفيد التجارب أنه كلما كانت كمية هذا الحافز كبيرة كلما كان ناتج التفاعل الفكري جيد ومفيد. وإن كان لكل تفاعل أجساما جديدة تنتج عنه فإن ناتج التفاعل الفكري هو فكرنا العملي الذي هو سلوكنا، أعمالنا وإنجازاتنا، ولهذا السبب ينبغي علينا أن نفكر في كيفية تخليص الفكر من الفوضى وفي تقوية أسس بناء البيت الفكري الذي تسكنه عقولنا جميعا. إنه أمر يتطلب البحث عن الهفوات والأخطاء التي ارتكبت أثناء عملية بناء الفكر العملي القائم أساسا على تصميم الفكر النظري الذي يحتاج هو الآخر إلى الإحاطة بكل جوانبه لعل الهفوات تكون قائمة فيه. ولعل ما يتطلبه تطوير المعرفة الإنسانية هو تطهير الفكر وتنقيته من بعض المفاهيم والأوهام المتجلية في الصور التي ترتسم في الأذهان عن حقيقة الأشياء. هذه هي المهمة التي على العقل أن ينشغل بها متحديا كل الخلافات القائمة بين التيارات الفكرية لأنه هو المسؤول الوحيد عن حل مشاكل الإنسان، فهو مؤسس الفكر وصانع الرموز وبفضله اتخذت الأشياء صورا لها عند الإنسان، ومن أجل تجنب أي سوء قد ينتج عن ذلك عليه أن يجد حلا للأزمة التي يعيشها.

وأول خطوة في هذه العملية هي استحضار خصائص كل تفكير على حدا قبل أي محاولة توفيقية يكون من شأنها حماية فكر الإنسانية من شر الاصطدام الذي قد يحدث بين أصناف التفكير بسبب التعصب والتطرف واللامبالاة.

أ- الدين
هو مؤسس الأسرة الفكرية وأب العلوم التي تعد الفلسفة أمها، ويعتبر كذلك قوة يرجع إليها الفضل في ظهور المعرفة البشرية وتقدمها باعتباره أول ما حرك مخيلة الإنسان ووجهها لصالح خدمة صاحبها، وهو لا يدعو إلى شيء يتنافى مع مصلحة الإنسان لأنه يهدف إلى تحقيق الخير للإنسانية، لذلك تطلع منذ البداية إلى أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض لتميزه بالعقل.
ولقد لعب دورا هاما في تحرير الإنسان من جزء هام من الخرافات والأساطير وفي حمله على العمل من أجل التحرر من السيطرة والاستعباد ومن أجل تحقيق إنسانيته كذلك. وما جاء به ودعا إلى ممارسته كالصلاة والصوم والزكاة والحج وغيرها كلها ممارسات بقدر ما تقرب الإنسان من الله بقدر ما تدربه وتمرنه على كثير من الآداب والأساليب التي هو بحاجة إليها في حياته اليومية كي يكون سليما وناجحا. ولم يكن الدين في يوم من الأيام عائقا أمام تقدم الإنسانية وإنما تناقض مصالح الإنسان هو السبب في اضطرابها لأنه عندما ينصرف الدين عن مهمته عند رجال الدين يصبح وسيلة للاستغلال لا تخدم سوى مصلحة الأقلية، وكان قد ترتب على مثل هذا التوظيف السيئ للدين أن أطلق عليه البعض أفيون الشعوب.
إن الدين بالنسبة للشعوب سلاح ذو حدين يؤدي حسن استعماله إلى التحرر والتقدم كما يؤدي سوء استعماله إلى التدمير والتقيد، وهو لا يقتصر على مصير النفس البشرية في العالم الآخر فقط كما أنه لا يعتمد على اعتقادات في غاية البساطة أو بلا معنى، فبالنظر إلى البداية نجد شيئا لا يمكن معرفته على الإطلاق وهو منطلق يستحيل استبعاده كما يستحيل بلوغه وهذا ما يتفق عليه كل من رجال الدين والفلاسفة. وأهمية الدين بالنسبة إلى العقل لبلوغ غايته كأهمية علامات المرور على الطريق بالنسبة إلى السائق لوصول محطته.

ب- الفلسفة
تعتبر الفلسفة ثاني تيار فكري عرفه الإنسان. ويعد دورها رئيسيا في تطور المعرفة الإنسانية. وقصة ظهورها إلى جانب الدين الذي نشأت منه تشبه إلى حد كبير مجازيا قصة ظهور أمنا حواء إلى جانب أبونا آدم الذي خلقت منه. غير أن علاقتها بالدين التي استمرت طويلا والتي نتج عنها ميلاد كل العلوم توقفت بسبب خلاف نشأ بينهما أدى إلى الافتراق، فاستقلت الفلسفة عن الدين وتحملت أعباء صغارها ثم صارت على ضوء المنطق تبحث عن الحقيقة التي تدفع بالإنسان دوما إلى الحركة والنشاط وتنهي أمره بالحيرة والتساؤل.

إن عمل العقل في الفلسفة يقوم على اكتشاف الوحدة الكامنة في التعارض حتى لو استلزمه الأمر استخدام طرق غير مألوفة، فهو يرى أن الطبيعة تتألف من ظواهر مرتبطة فيما بينها وليس من أشياء منعزلة ومنفردة. وكما يحس العقل في الفلسفة ويؤمن بوجود الطبيعة فهو يشعر كذلك بوجود ما وراء الطبيعة ويسلم به. ورغم التعارض الذي يبدو جليا بين التصور الأول والثاني فإن العقل بإمكانه في الفلسفة تصور صورة واضحة لكل ما باستطاعة الإنسان معرفته في الطبيعة أو فيما وراءها. وهو لا يتقيد بالمحسوسات المباشرة أثناء انشغاله بالبحث عن نظام الظواهر لأنه بإمكانه اعتمادا على المعطيات الحسية الواردة إليه أن يتوصل إلى معارف تمتد إلى ما وراء المحسوس، ويتمثل نشاطه الخاص هذا في عملية تكوين المفاهيم الكلية بناء على المفاهيم الجزئية بعد تجريدها والتأمل فيها. إن تعقب علة ظاهرة واحدة يجر إلى البحث في الكون كله.. لهذا عندما تصادفه ظاهرة معينة ويتعذر عليه الجواب عن سببها يعيد العقل طرح السؤال عن مدى ارتباطها بالظواهر الأخرى، لأنه يدرك مدى ارتباط ظواهر الكون بعضها ببعض وكذلك مدى تماسك الفروع المختلفة للمعرفة البشرية.

ت- العلم
ينحصر موضوع العلم في الكشف عن القوانين والمفاهيم الجزئية معتمدا على الملاحظة والوصف كما يعتمد أيضا على الافتراضات التي هي من وحي الواقع الذي يشاهده العالِم والتي لا تكون ذات قيمة إلا إذا أكدتها التجربة وحققتها الملاحظة والاختبار. ولكن عن طريق العلم وحده لا ندري شيئا عن نظام الوقائع لأن العالِم لا يهتم بالظواهر الكونية والإنسانية في منظورها الشمولي وإنما يتخذ ظاهرة معينة ميدانا لبحثه فيقوم بدراستها وتتبع أحداثها وتطورها، وكل همه هو الكشف عن العلاقات القائمة داخلها دون الاهتمام بالكشف عن ماهيتها أو غايتها، وبعد استكمال تجاربه يصوغ النتائج المحصل عليها في قانون لا يتعدى نطاق المجموعة المحددة التي تشكل ميدان بحثه في حين أن التعميم عند الفيلسوف غير ذلك تماما لأنه يشمل مختلف الظواهر العامة ويعبر عنها في نسق منطقي، عقلاني وشمولي منه ما هو قابل للتجربة ومنه ما هو مستحيل.

إنه من الطبيعي أن تشد العلم روابط متينة بالفلسفة بالرغم من عدم اعترافه بفضلها عليه، إنها كانت ولا تزال تستخرج المادة الخام وتقوم بتقديمها له ليشاهدها ويصفها ويحللها ويستنبط منها وقائع متعددة ثم يكشف عن قوانينها، وبما أنه لا يهتم بالكشف عن الغاية فإن الفلسفة تستخدم نتائجه وتقوم بتنسيقها بالنظر إلى تحسين الحياة الإنسانية. وبالتالي تكون نظرة العلم وحدها ليست كفيلة بتحقيق تقدم المعرفة الإنسانية.
ويشهد التاريخ بأن العلوم المختلفة سواء كانت طبيعية أو إنسانية إنما نشأت وترعرعت في أحضان أمها الفلسفة وبقيت مرتبطة بها إلى أن وصلت إلى المرحلة التي تشبه إلى حد كبير مرحلة إثبات الذات عند الإنسان (المراهقة) وتتطلب مرحلة كهذه العناية المركزة والمراقبة المستمرة والتوجيه الصحيح من طرف الوالدين معا حتى يتمكن الأولاد من اجتيازها بنجاح، وبعد هذه المرحلة مباشرة يصبح الإنسان ناضجا قادرا على بناء نفسه اعتمادا على نفسه حتى بعيدا عن والديه أي بعد استقلاله عنهما، وبالنظر إلى استقلال العلوم عن بيت أسرتها فهو لم يكن سليما لأنه تم قبل اكتمال مقوماته.

صديقي الإنسان،
من خلال ما استعرضناه لخصائص التيارات الفكرية الثلاثة يتبين لنا أن التفكير العلمي يؤمن بفكرة رئيسية يقوم عليها كيانه وهي مبدأ الحتمية كما أنه يتقيد بالتجربة ويلتزم بما هو كائن دون النظر إلى ما ينبغي أن يكون، وهو يختلف بذلك عن التفكير الفلسفي الذي يتقيد بالمنطق وينظر إلى ما ينبغي أن يكون بناء على ما هو كائن. وهما معا يختلفان عن التفكير الديني الصادر أساسا عن الاعتقاد. لكن، ليس بمقدور لا الدين ولا الفلسفة ولا العلم أن يسحب أحدهم الستار لوحده عن الحقيقة المراد معرفتها من قبل إنسان الألفية الثالثة الذي يفضل أن يرى الأشياء في صورتها الكاملة بدقة متناهية.
وحتى لا ننسى الإجابة على السؤال الذي طرحته من قبل والذي يتعلق بكيفية تخليص الفكر من الفوضى سنعود إلى العقل بصفته المسؤول الوحيد عن حل مشاكل الإنسان والذي بإمكانه أن يجد وسيلة يجعل بها الفلسفة تدرك خطورة ما آل إليه الوضع من جراء الهجر والعداوة التي نشأت عندها اتجاه أب أبنائها. وبعد أن تدرك الفلسفة خطورة الوضع.. سيلزمها العقل على العودة إلى البيت الذي شيده الدين وتم فيه إنجاب العلوم. لكن وقبل عودتها عليها أولا تصحيح الصورة التي رسمتها في مخيلة أبنائها العلوم عن أبيهم الدين ثم إقناعهم بأي شكل حتى بإغرائهم بمادة خام جديدة تكون مستخرجة من تربته من أجل انضمامهم إليها ثانية ومرافقتهم لها خلال عودتها إلى بيت الأسرة الفكرية التي لا تعد مركبة بهذا الاعتبار من أجزاء تختلف طبيعة بعضها عن بعض، بل هي وحدة تهدف في نشاطها إلى تحقيق التواصل الكلي. لذلك هي ملزمة بمقاومتها للتجزئة للحفاظ على نفسها. فوحدها هذه النظمة تملك القدرة على إرشادك أخي الإنسان إلى المعرفة الصحيحة وإلى شعورك بأنك جزء مهم من الكل.

إن الخير الكبير الذي تود الأسرة الفكرية تحقيقه للإنسان هو معرفة الاتحاد الذي يربط العقل بالطبيعة كلها وبما وراءها وهذا ما سيجعله يشعر بمتعة لا نظير لها.. إنها لذة العقل التي تخلق السعادة الحقيقية. صحيح أن مفهوم السعادة مرتبط بشعور الإنسان باللذة لكن للملذات الغريزية ألوانا عديدة ومختلفة يصعب تحقيقها جملة واحدة، وحتى إن تحققت فهي لحظية ولا تحقق السعادة الدائمة. وعليه، فاللذة الغريزية التي يتمتع بها الحيوان أيضا وحدها ليست كافية لجعل الإنسان مطمئنا وسعيدا. وما يبطل مفعول السعادة هو القلق الذي ينتج عن عدم معرفة الأسباب التي تحرك الأشياء التي تخيفنا، إننا لا نخاف من عدو يكون بوسعنا التغلب عليه، لكن وجودنا في خضم الأسباب الخارجية التي تتقاذف علينا من كل ناحية يجعلنا نضطرب ونتساءل دون أن نعرف شيئا عن مصيرنا. هذا القلق إذا هو اعتراف منا بخوفنا وذلك بسبب نقصنا. لهذا كلما ازداد العقل معرفة ازداد فهما لنظام الطبيعة وكلما ازداد فهما لنظام الطبيعة ازداد مقدرة على تحرير نفسه من الأوهام التي تخيفه، لأن فهم الشيء وإدراك معناه ومعرفة كنهه وغايته كل ذلك يبعث الاطمئنان في النفس ويبعد الشعور بالخوف منه. وحينما يترعرع العقل في أحضان الفكر ويتغذى بحليب المعرفة.. تزول قيود الجهل قيدا بعد قيد وتنقص شدة الخوف درجة بعد درجة حتى إن صار ناضجا مطلعا على الحقائق وجد صاحبه نفسه سيدا حرا لا يخاف الأشياء والظواهر كيفما كانت بل يدركها ويقدر أسباب حدوثها. هذه هي الحرية الحقيقية التي على الإنسان أن يسعى وراءها لكي يكون سعيدا ما دام يتسلح بأداة تدعى عقلا تمكنه من التخلص من كل المآزق وتجعله يشعر بالسعادة الدائمة التي تحققها لذة العقل.

ومن شأن العقل أن يسخر من صاحبه إن أساء استخدامه وتعصب للأفكار الفاسدة، كما يستحيل عليه أن يغفر له الحالة المستعصية التي يوصله إليها «عقلية دنيئة» بسبب أهوائه العمياء، ففي الوقت الذي تخمد فيه جذوته يسلم العقل أمر صاحبه لقاضي التحقيق المسمى الضمير لينظر في قضيته والويل من عذاب الضمير. وإذا كان العقل يعاقب صاحبه إن أساء التصرف به، فإنه يمنحه السيادة ويرفع من قدره ويحقق له السعادة والمجد إن أحسن توظيفه. ويكفي الإنسان أن يكون موضوعيا في كل ما يفكر به ويعمل عليه ليرضى عنه عقله ويهديه أحسن السبل وهذا ما يرفع من درجاته على سلم الوجود.

في نهاية هذا الفصل أخي الإنسان، سأدعوك لتكتشف درجتك على سلم الوجود لأنه حينما تنظر إلى نفسك وإلى ما حولك ثم إلى السماء ويكون بإمكانك تحديد إحداثياتك بالنسبة للمعلم الكوني وقتما وأينما كنت، وعندما تعرف قدرك ومكانتك كأن تشعر بسيادتك يا خليفة الله على الأرض، ولما تدرك الحقائق وتستوعب المغزى، حينها فقط ستعرف معنى وجودك الذي ستبصمه إنجازاتك. إن ما يثبت وجودك ويرفع من درجة سلمه ليس وضعك الاجتماعي ولا الثوب والإكسسوار الذي ترتديه ولا القصر الذي تسكنه ولا العضلات المفتولة التي تغطي جسدك ولا عدد الشواهد ولا نسبة المعلومات التي يسعها عقلك.. وإنما هو مستوى رد فعلك في كل شكل من أشكال الحياة الخمس (الحياة الشخصية، الحياة العائلية، الحياة الاجتماعية، الحياة العملية ثم الحياة الفكرية).. تصرفك أو سلوكك هو المؤشر الوحيد الذي يشير إلى رتبتك بين المستويات الخمس. يتبع وأرجو التفاعل


 

رد مع اقتباس